الاثنين، 21 مارس 2011

هل ننتمي إلى ثقافة البحر المتوسط؟



هل ننتمي إلى ثقافة البحر المتوسط؟

كتب د.عصام عبد الله

في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 نشرت مجلة " فكر وفن " الألمانية عددا خاصا بهذه المناسبة، احتوي مقالا ليورجن هايرماس ، شيخ الفلاسفة المعاصرين، عنوانه بـ"الإيمان والعلم"، أكد فيه أن : "العلم ينير العقل ويبدد أوهامه الكثيرة حول العالم। وحين نتعلم شيئا جديدا عن أنفسنا ككائنات في العالم يتغير مضمون فهمنا الذاتي. وقد قلب كوبرنيكوس وداروين صورة العالم التي كانت تتمركز حول الأرض وحول الإنسان رأسا علي عقب. بيد أن تخريب الوعي الفلكي فيما يتعلق بمدار النجوم ترك في عالم الحياة آثارا أقل مما تركه نزع الوهم البيولوجي فيما يتعلق بمكانة الإنسان في تاريخ الطبيعة. ويبدو أن المعارف العلمية تزعج فهـمنا الذاتي بدرجة أكبر كلما اقتربت منا ". المفكر اللبناني حسن عجمي صاحب كتاب " السوبر تخلف " له رأي آخر يقول في المقدمة : " الشعب المتخلف هو الشعب الذي لا ينتج ما هو مفيد للبشرية وللعلم، أما الشعب السوبر متخلف فهو الشعب الذي يطور التخلف، وذلك من خلال تقديم الجهل علي أنه علم، نحن العرب والمسلمين نحيا اليوم في عصر السوبر تخلف". ويضيف عجمي "إننا اليوم نستخدم العلم من أجل التجهيل، وذلك من خلال تحويل العلم إلي الجهل، مثلاً بالنسبة إلينا العلم وحي يوحي، ولذا فإن مدارسنا وجامعاتنا لا تخرج علماء، بل تخرج إرهابيين وبائعي سلع، كسلعة الطب والهندسة، نحن أمة أنبياء، فأصغر شاعر منَّا يدعي أن الوحي يسقط عليه، ولذا فنحن خارج الحضارة والتاريخ لأننا رفضا العلم والفلسفة والمنطق، ولذلك أمسينا عبيدًا لأسياد العلم". كلام عجمي مهم ، خاصة أننا ننتمي إلي نفس حضارة البحر الأبيض المتوسط التي أنتجت العلم والفلسفة والتكنولوجيا في العصر الحديث، ومن ثم يصبح السؤال هو : ما الذي يكبل أقدامنا " نحن " ويقيد حركتنا من الانطلاق في اتجاه المستقبل مثلما أنطلقوا " هم "؟ سان " جريجوري س. بوميرانتز " أستاذ الحضارات المقارنة في معهد المعلومات للعلوم الاجتماعية في موسكو، له دراسة مهمة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بعنوان (نظرية الحضارات العالمية الفرعية، أصالة الثقافات الشرقية). يقول: " أن عالم البحر المتوسط يعارض الشرق الأقصي من حيث إنه حضارة تقوم علي حقائق الوحي الإلهي، في حين أن الحقيقة في الشرق الأقصي غير مستمدة من الوحي، ولا يمكن التعبير عنها أساسا، فالقرآن الكريم عند المسلمين، والمسيحية في نظر المسيحيين، من الحقائق المطلقة الموحي بها. أما البوذية فهي - علي العكس - تتمسك بأهداب " الصمت النبيل " فيما يتعلق بالأسرار العظمي لما يسمونه " الكائن ". وتأييدا لذلك يقول " لاو تزو " مخاطبا إياه: " أيها الغامض! أيها السديمي! ". لقد حال الطابع غير الدقيق لرموز " المطلق " في الصين والهند دون قيام الصراع بين الدين والفلسفة، ذلك الصراع الذي استشري في عالم البحر الأبيض المتوسط، بسبب اختلاف الأصل العرقي للمذاهب. فهو سامي بالنسبة للعقائد الدينية، وأغريقي بالنسبة للفلسفة، وروماني بالنسبة للقانون. ولا يوجد في الهند أو في الصين أي خلاف في اصطلاحات الفلسفة واللاهوت. ولا يتصور العقل أن يؤلف أحد كتابا في " تهافت الفلاسفة " كما فعل الغزالي، ولا " تهافت التهافت " كما فعل ابن رشد، ولم تنزل الفلسفة إلي درجة " خادمة للاهوت " كما قال توما الأكويني، ولا تمردت الفلسفة علي دورها. ولم يكابد أهل العلم محنة العقل في هذه الوحدة الثقافية غير المتطورة، ناهيك عن أن فرصة انفصال العلم عن الامتزاج بالدين وتحوله إلي قوة اجتماعية مستقلة ظلت ضئيلة للغاية".

الجمعة، 18 مارس 2011

مواقف : الضيمياء


مواقف : الضيمياء

بقلم: أنيس منصور
حاول ان تفهم هذه العبارة‏:‏ الضيمائية هي فلسفة الكشف عن الضيم الذي يصيب عقلنا الذي يسجننا في يقينياته الكاذبة‏.‏ فكل اعتقاد سجن لأنه اعتقاد بشيء دون آخر‏.‏ وكل رغبة سجن لنا لأنها رغبة بشيء دون آخر‏.‏ وللخروج من ضيم افكارنا ورغباتنا وسلوكنا لابد أن نخلع ذواتنا باستمرار‏,‏ وأن نستبدلها بذوات أخري ممكنة‏.‏ هكذا الآخر الممكن يحررنا لأنه من صنعنا نحن بالذات‏.‏ الضيمائية مذهب فلسفي يرينا كيف اننا نظن كذبا بأن كل شيء أداة في خدمتنا بينما الحق اننا نحن أدوات في خدمة كل شيء آخر‏.‏ قد تكون هذه الحقيقة مؤلمة‏.‏ فعندنا الانسان أداة الكون والكون أداة العدم‏.‏ فالانسان يحدد الكون غير المحدد من خلال ادراكه‏,‏ كما تؤكد ميكانيكا الكم‏.‏ والكون نشأ من العدم من جراء التقلبات الكمية التي تصيب العدم وكما تؤكد العلوم الحديثة‏.‏ هكذا نحن أداة العدم‏.‏هذه العبارة مثل ألوف غيرها في كتاب عنوانه‏(‏ الضيمياء ـ فلسفة الضيم‏)‏ من تأليف حسن عجمي ومن منشورات دار كلمة في‏150‏ صفحة‏.‏الكلام فلسفي صعب‏,‏ ويثير قضايا فلسفية معاصرة‏, تقبل المناقشة والأخذ والرد‏.‏ ولكن من هذا المتفلسف الذي اسمه عجمي والذي أصدر قبل ذلك خمسة عشر كتابا كلها ابتكارات أو ابداعات أو محاولات أو مجاهدات شاقة‏.‏ ولكنه فكر فلسفي يحاول ان يكون مشينا وأن يضيف جديدا‏.‏وله كتاب آخر اسمه ‏(‏ السوبر تخلف‏)‏ انه نفس الأسلوب‏,‏ نفس الشخص الذي ينحت الكلمات ويحفر المعاني ويصرخ ولكنه صراخ مسموح وليس مفهوما إلا عند الخاصة من دارسي الفلسفة‏.‏ ولكنه يحاول ويبدع ونشكره علي ذلك‏.‏ وأهلا وسهلا‏,‏ فالفلاسفة من خارج القاعات واللجان واقسام الفلسفة في كل الجامعات‏!‏

الأربعاء، 5 يناير 2011

ستيفن هوكنغ : " التصميم العظيم " الخلق التلقائي للكون و عدم ضرورة وجود الله



ستيفن هوكنغ : " التصميم العظيم "

الخلق التلقائي للكون و عدم ضرورة وجود الله


حسن عجمي

تم نقد كتاب الفيزيائي الكبير ستيفن هوكنغ " التصميم العظيم" قبل أن يتم نشره وتوزيعه. والسبب الأساس وراء ذلك هو أن هوكنغ قد ألغى فيه ضرورة وجود الله و اعتبر أن من الممكن تفسير كل شيء من خلال العلم فقط. شارك الفيزيائي ملودينو في صياغة كتاب هوكنغ الجديد حيث أوضحا موقفهما من العلم والفلسفة والله. نرصد في هذه المقالة رحلة هوكنغ المعرفية و نتساءل عن مدى إمكانية وجود خالق للكون أعلى من الكون وخارجه.


لماذا نوجد و لماذا يوجد عالمنا؟

يرتحل هوكنغ إلى أسرار الكون ليقرأ علينا آيات من الفيزياء المعاصرة. فيعتمد على نظريتين فيزيائيتين أساسيتين في تفسير موقفه العلمي ألا وهما نظرية ميكانيكا الكمّ ونظرية الأوتار. يؤكد على أن كل نظرية من هاتين النظريتين تشير بقوة إلى وجود أكوان ممكنة عديدة و مختلفة. وهذه الأكوان ليست المجرات المتنوعة في عالمنا، بل هي منفصلة و مختلفة عن عالمنا ولها حقائقها وقوانينها الطبيعية الخاصة. فكل عالم ممكن لديه قوانينه و حقائقه المختلفة عن قوانين و حقائق العوالم الممكنة الأخرى. بالنسبة إلى نظرية ميكانيكا الكمّ، من غير المحدّد ما إذا كان الجسيم كالإلكترون جسيما ً أم موجة. فالجسيم يتصرف و كأنه جسيم و كأنه موجة بدلا ً من جسيم في الوقت نفسه. لكن الموجة نقيضة الجسيم, و بذلك يستحيل أن يكون الجسيم جسيما ً و موجة في آن. من هنا, لابد من وجود عالمين: عالم حيث الجسيم جسيم و عالم آخر حيث الجسيم موجة و ليس جسيما ً. بكلام آخر, تعتبر ميكانيكا الكمّ أن قطة شرودنغر حية و ميتة في آن؛ فمن غير المحدّد ما إذا كانت حية أم ميتة. لذا لابد من وجود كونين: كون حيث قطة شرودنغر حية و كون آخر مختلف حيث قطة شرودنغر ذاتها ميتة. هكذا تحل ميكانيكا الكمّ هذا الإشكال العلمي من خلال اعتبار أنه بالفعل توجد أكوان ممكنة متنوعة و عديدة. يعبّر ستيفن هوكنغ عن هذا الاتجاه العلمي قائلا ً: بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ، لا يوجد الجسيم في مكان معين بل يوجد في كل الأمكنة الممكنة في الوقت نفسه. إذا طبقنا هذا المبدأ العلمي على الكون كله سنحصل على نتيجة أن الكون كله لا يوجد في حالة معينة بل يوجد في كل الحالات الممكنة. و بذلك ثمة أكوان ممكنة عدة إن لم تكن لامتناهية في العدد. فالحالات الممكنة المختلفة للوجود ليست سوى العوالم الممكنة المتنوعة
Stephen Hawking and Leonard Mlodinow :The Grand Design. 2010. Bantam.)).

من جهة أخرى, تقول نظرية الأوتار العلمية إن الكون عزف موسيقي. فالكون، بالنسبة إليها, يتكوّن من أوتار و أنغامها, ومع اختلاف ذبذبات الأوتار تختلف مواد الكون و طاقاته. تستلزم نظرية الأوتار وجود أبعاد عدة بالاضافة إلى الأبعاد المكانية الثلاثة المعروفة (العمق والطول والعرض) والبعد الزماني. في هذه الأبعاد الإضافية من الممكن للأوتار أن تتخذ هندسات مختلفة تربط الأوتار فيما بينها. لكن قوانين الطبيعة تختلف باختلاف هندسات الطبيعة. و بذلك ثمة إمكانية وجود قوانين طبيعية مختلفة تحكم أكوانا ً ممكنة متنوعة في تلك الأبعاد الإضافية. هكذا توصلنا نظرية الأوتار أيضا ً إلى نتيجة أنه توجد أكوان ممكنة عدة إن لم تكن لامتناهية في العدد. بالإضافة إلى ذلك, ثمة بلايين من الحلول المختلفة والمتعارضة لمعادلات نظرية الأوتار. وبذلك كل حلّ منها يصف كونا ً ممكنا ً مختلفاً عن الأكوان الممكنة الأخرى التي تصفها الحلول الأخرى لنظرية الأوتار. من هنا, تصّر نظرية الأوتار على وجود أكوان ممكنة مختلفة ( المرجع السابق).

اعتماداً على نظرية الأكوان الممكنة يجيب هوكنغ على السؤال الأساسي الذي حيّر الإنسانية ألا وهو: لماذا نوجد ولماذا يوجد عالمنا بقوانينه و حقائقه بالذات؟ بالنسبة إلى هوكنغ، بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لامتناهية في العدد, إذن من الطبيعي أن يوجد عالم كعالمنا تحكمه قوانينه الطبيعية بالذات و تسمح بنشوء الحياة ونشوئنا. الأعداد الهائلة للأكوان الممكنة تجعل من غير المستغرب وجود أكوان شبيهة بعالمنا أو مطابقة له تتمتع بحقائقها و قوانينها بالذات و قادرة على إنجابنا. فكما أنه توجد أكوان تمنع قوانينها و حقائقها نمو الحياة والعقل, ثمة أكوان أخرى تسمح بوجود حياة وعقل و تؤدي إليهما. و لذا من غير المستغرب أن نوجد في عالم من تلك العوالم الملائمة لنشوء الحياة. هكذا يفسّر هوكنغ لماذا نوجد و لماذا يوجد عالمنا بالذات بدلا ً من عالم آخر. فكل العوالم الممكنة موجودة، و لذا من الطبيعي أن يوجد عالمنا أيضا ً و أن نوجد (المرجع السابق). لكن هذا التفسير يتعرض لمشكلة أساسية هي التالية: بالنسبة إلى علم الرياضيات, من الممكن سحب أعداد هائلة جدا ً من سلسلة الأعداد اللامتناهية وتبقى تلك السلسلة لا متناهية في أعدادها. من هنا, من الممكن سحب كل الأكوان الممكنة الملائمة لوجود الحياة من سلسلة الأكوان الممكنة اللامتناهية وتظل هذه السلسلة متكوّنة من أعداد لا متناهية من الأكوان. على هذا الأساس, و جود سلسلة لا متناهية من الأكوان الممكنة لا يستلزم بالضرورة وجود أكوان ممكنة كعالمنا ملائمة لنشوء الحياة و نشوئنا. هكذا لا ننجح هنا في تفسير لماذا يوجد عالمنا بالذات و لماذا نوجد. فمن الممكن وجود أكوان لا متناهية في العدد من دون وجود عالمنا أو وجود أكوان شبيهة بعالمنا. من هنا, لا نستطيع بحق تفسير لماذا نوجد و لماذا يوجد عالمنا من خلال نظرية وجود أكوان ممكنة عديدة و مختلفة.

الوجود من عدم

من منطلق ميكانيكا الكمّ أيضا ً يشرح لنا هوكنغ كيف من الممكن للكون أن ينشأ من العدم. فالعدم يتكوّن من طاقات متعارضة, ولذا تختزل بعضها البعض فيتشكّل العدم. لكن بما أن التقلب الكمي ( الخاص بميكانيكا الكمّ و الذي لا يسمح بثبات أي شيء على حاله ) يحكم العدم كما أي شيء آخر, إذن من المتوقع أن تفلت طاقة ما من العدم ولا يتم اختزالها ما يتيح في المجال أمام تحوّل تلك الطاقة إلى عالم موجود بالفعل. هكذا من الممكن نشوء الكون من العدم من دون الاعتماد على خالق لتفسير ذلك. على هذا الأساس, يقول هوكنغ إن الكون يخلق ذاته من خلال العدم. فبالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ, تنشأ الجسيمات الافتراضية من العدم ومن ثم تختفي بسرعة هائلة ما يجعل من الممكن أن ينمو الكون من العدم. هكذا يخلق الكون نفسه تلقائياً بفضل العدم و قوانين الطبيعة كقوانين ميكانيكا الكمّ وقانون الجاذبية المسؤول عن تكوين النجوم و المجرات. لذا يؤكد هوكنغ على أننا لا نحتاج إلى الله لكي نفسّر لماذا يوجد الكون أو الوجود. فمن الممكن تفسير وجود الكون أو وجود شيء بدلاً من لا شيء من خلال العلم وقوانينه فقط. يعترف هوكنغ بأنه لا يبرهن على عدم وجود الله, بل يدلنا فقط على عدم ضرورة وجوده. فالكون موجود لأنه ضروري الوجود. وهو ضروري الوجود لأن عدم وجوده يستلزم وجود العدم, و وجود العدم يستلزم وجود الوجود كما أوضحت ميكانيكا الكمّ (المرجع السابق).

بالنسبة إلى هوكنغ, القوانين الطبيعية قادرة على تفسير الكون وظواهره وتنجح في الإجابة على سؤال " لماذا يوجد الوجود؟" ما يدفعنا نحو التخلي عن الاعتماد على الكائنات الخارقة كالله من أجل تفسير العالم أو الإجابة على أسئلتنا العلمية. لا يقول هوكنغ إن الله قد مات كما يقول نيتشه, بل يعتبر أن الله قد أصبح خارج الخدمة بينما الفلسفة هي التي حقاً قد ماتت. بالنسبة إلى هوكنغ، أمست الفلسفة غير ضرورية تماما ً كفكرة وجود الله. هذا لأن الأسئلة الفلسفية الأساسية كسؤال " لماذا نوجد ولماذا يوجد عالمنا؟" تحوّلت إلى أسئلة علمية ما يستدعي عدم ضرورة التفلسف بعد اليوم.
رغم قوله بموت الفلسفة يتخذ هوكنغ موقفاً فلسفيا ً صريحا ً ألا وهو التالي: الواقع في ذاته موجود بشكل مستقل عنا, لكن صفاته والعلاقات بين صفاته معتمدة على نموذجنا الفكري أي معتمدة على تفسيرنا و وصفنا لها. وبذلك يتغير هذا الواقع بتغير منظومتنا الفكرية. من هنا, الواقع مستقل عنا من جهة, وغير مستقل من جهة أخرى. هذا موقف فلسفي بامتياز مدعوم بأمثلة علمية. فمثلا ً, يبدو الكون حتميا ً من منظور النظرية النسبية لأينشتاين, بينما يبدو الكون ذاته غيرحتمي من منظور نظرية ميكانيكا الكمّ . وهاتان النظريتان مقبولتان رغم اختلافهما وتعارضهما لنجاحهما في تفسير الكون. وقبولهما معا ً متاح بالنسبة إلى هوكنغ لأن تشكيل الواقع معتمد على نظامنا الفكري ؛ فبما أن الواقع يتشكل بمعنى ما على أساس نظرياتنا عنه, إذن لا يستلزم الواقع صدق نظرية ما دون أخرى.على ضوء هذا التفكير الفلسفي يقبل هوكنغ كلا ً من نظرية النسبية لأينشتاين و نظرية ميكانيكا الكمّ ونظرية الأوتار رغم الاختلاف فيما بينها. و بالنسبة إليه أيضاً , النظرية العلمية مجرد أداة لتفسير الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها و ليس من الضروري أن تكون مطابقة للواقع كما هو, لذا من المتاح قبول كل النظريات العلمية الناجحة رغم التعارض فيما بينها (المرجع السابق). هنا يدخل هوكنغ عالم الميتافيزياء و عالم فلسفة العلوم رغم قوله بأن الفلسفة قد ماتت. يبدو أن لا شيء يموت.

إمكانية وجود الله

تعرض كتاب "التصميم العظيم" لستيفن هوكنغ و ملودينو إلى نقد شديد من قبل بعض العلماء والفلاسفة. فمثلا ً, اعتبر الفيلسوف والفيزيائي بول ديفيز أن هوكنغ لم ينجح في إقصاء وجود الله أو إمكانية وجوده. بالنسبة إلى ديفيز, إذا كان كل ما يقوله هوكنغ صحيحا ً, ما يزال من الممكن أن يوجد الله و أن يكون الله خالق الكون. يقول ديفيز إن هوكنغ يفسّر لماذا نشأ الكون؛ فلقد نشأ, كما يقول العلماء جميعا ً, من العدم من جراء قوانين ميكانيكا الكمّ. لكن يتساءل: ما مصدر تلك القوانين الطبيعية التي أدت إلى أن يوجد الكون من العدم؟ هنا يجيب ديفيز قائلاً إنه من الممكن وجود خالق هو سبب وجود القوانين الطبيعية التي تتيح وجود الوجود من العدم. لكن يملك هوكنغ جوابا ً مناقضا ً لجواب ديفيز و هو أنه توجد هذه القوانين الطبيعية لأنه توجد كل القوانين الطبيعية الممكنة في أكوان ممكنة مختلفة, وبذلك ليس من الغريب أن توجد قوانين طبيعية كقوانين ميكانيكا الكمّ المسؤولة عن نمو الكون من العدم. هنا يرد ديفيز متسائلاً : لماذا توجد كل القوانين الطبيعية الممكنة وما مصدرها؟ ومن الأجوبة المتاحة هو أنه لابد من وجود ميتاقوانين طبيعية metalaws تؤدي إلى نشوء كل القوانين والأكوان الممكنة من العدم. و الميتا قوانين هي القوانين الأعلى المؤدية إلى وجود القوانين الطبيعية . لكن ما مصدر الميتاقوانين؟ يجيب ديفيز: من الممكن أن يكون الله هو مصدرها. هكذا فكرة وجود الله وخلقه للوجود ما زالت فكرة ممكنة؛ فقد يوجد الله و قد نحتاج إليه كي نفسّر لماذا توجد أية قوانين أصلا ً ( Paul Davies: Stephen Hawking's big bang gaps. The guardian. September 2010.).

لكن من الممكن الإجابة على هذا السؤال بطريقة أخرى و اتخاذ الموقف التالي: لنتصوّر عدم وجود قوانين للطبيعة. في هذه الحالة, وبما أن قوانين الطبيعة هي التي تحفظ النظام , ستسود الفوضى من جراء غياب القوانين الطبيعية بحيث سيوجد الشيء ونقيضه في آن و ستوجد هذه الظاهرة أو تلك و نقيضها في الوقت نفسه. وبذلك سيوجد العالم المستحيل المتكوّن من المتناقضات. لكن منطقيا ً من أي تناقض من الممكن بحق استنتاج أية نتيجة؛ هكذا يعلمنا المنطق.من هنا, من الممكن استنتاج أية نتيجة أو حقيقة أو ظاهرة من الكون المستحيل السابق, وبذلك هذا الكون المستحيل كأي كون مستحيل يتضمن كل الأكوان الممكنة. على هذا الأساس, هذا الكون المستحيل ينجب كل الأكوان الممكنة و بذلك ينتج كل القوانين الطبيعية الممكنة. تسليمنا بعدم وجود قوانين طبيعية يحتم وجود عالم مستحيل يؤدي بالضرورة إلى نشوء كل القوانين الطبيعية الممكنة وكل الأكوان الممكنة. هكذا توجد كل القوانين و الأكوان الممكنة بسبب أن عدم وجودها يستلزم وجودها و بذلك توجد بفضل خلقها التلقائي لذاتها كما يقول هوكنغ. من هنا, من الممكن تفسير لماذا توجد القوانين الطبيعية مهما كانت من دون الحاجة إلى إله خالق لها. ويبقى الجدال الفكري مستمرا ً بين العلماء و الفلاسفة بينما ما نزال نحن نرفض التفكير في هذه القضايا لإنشغالنا الدائم في احتلال مدننا و أنفسنا.

الرابط : جريدة المستقبل البنانية
http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=442061

الجمعة، 10 ديسمبر 2010

Hassan Ajami, a philosopher in the Medina



Hassan Ajami, a philosopher in the Medina






By Edgar Davidian

A philosopher in a medina with monoliths on the seaside, feet in the water and front to the clouds…A megalopolis medina, a wild, eruptive, cosmopolitan, hysterical medina, just like Beirut, the city that is paralyzed by endless construction yards and inextricable traffic jams. A city that is always shaken, interpellated, polluted, overwhelmed by horns…A city that shuts itself away between insolent opulence and pathetic misery. A city cradled by water but hard to live in peacefully, despite its perpetually clear sky. A unique city where ignorance succeeds, just like culture, which is considered as a conspicuous ornament or a harmless amusement

In a city, boiling as in a cauldron, which heats till bursting, a philosopher might help to see more clearly. He probes the pain that erodes and examines, with wisdom or detachment, a society choking with wishes, and attempts to heal and dress the wounds of an agonizing country



All we need in the capital of the Levant is a Diogenes who holds his lantern in the middle of the day. This capital is lead, with impunity and anarchy, by the opposite wind of the sea. How to place philosophy and poetry in these frontiers with contemporary shrills, frontiers devastated by anger flames, taboo sclerosis, inflexibility of radicalisms of lies, refusal of decontamination, and rejection of self-criticism



Hassan Ajami has his own techniques, resources, and inspiration to raise his “philosopher and poet” voice in this deafening chaos. Juggling in a heavy narrow Arabic, with ideas, concepts, meditation, thoughts, and muses eluding Parnassus, Hassan Ajami is concerned about everyone and everything. Nothing that marks the life of the city seems indifferent to him



Originally from Abbasiyyeh, Hassan Ajami is a 37-year-old man who holds a Master’s degree in Philosophy from Colombia University (USA) and a BA from AUB. This southern man has an inexhaustible ability of speaking when it comes to important matters, in other words, according to him, when it comes to culture, poetry, society, politics, and philosophy. He has already eight books in his assets, among which: “Al super Hadatha: discovering possible ideas” (the super-modernism) and “Al super moustakbalia: the universe, the reason, and the language the super-futurism



Those books are authentic arms open to others, bridges for a fair sharing of the art of harmonious living, despite their obvious hermetism and their haughty and castigating Arabic. A meeting in a café in Acharfieh with an intellectual person who swallows his Nespresso just as we swallow candies…The most recent of his writings on the table: “Al super Oussoulia” the super fundamentalism and the poetry selection “Al chiir Al ilmi” the scientific poetry



« I write for philosophy specialists, university students, or writers”, says Hassan Ajami while explaining his books, considered hard and tough for lay people. And with a malicious smile he adds, “Yes, I write for philosophy specialists without precisely thinking about them…In addition, philosophy can indeed be facilitated



But the way wasn’t that straight and direct, since the beginning of my literary enterprise in the world of ideas…Poetry was the first step towards my intellectual quest. Why poetry? For me, there is no difference between poetry and philosophy because it’s about exploring and interviewing the humanity field. I write to show and confirm my humanity…And my humanity is the other…Everything overlaps



There are lots of approaches in poetry: romantic, Sufi, philosophical. I intend to write something new, and this is scientific poetry. It exists abroad, but it is new for the Arab world, and it was refused by poets. What is scientific poetry? A text about scientific theories, directly or indirectly, like the photon, the cell, and the neurons… In Arab poetry for instance, we are always dealing with the symbols of the saber, the desert, the spears, and the misleading heroisms…The Arab poetry is always in the past



Poetry in which the rigor of the metric and the prose are used at the same time, along with the free rimes and the flights of an absurd universe where nonexistence is on the lookout, with titles that ring just like philosophical or semiotic treaties. Poetry inspired by the atom as well as by the stellar constellations. Listen to them spreading in the air, those titles with particular resonances: the mirrors of the reason”, “the linguistic inspiration



It is absolutely natural, for this experienced intellectual, to move from poetry to literature and philosophy, because, as he says, “My references always remain scientific. Nowadays, with the super-modernism notion (a term that Ajami presents as an invention that applies to our environment), it is about trespassing modernism and post-modernism and finding something new. This is called the study of the possible worlds, a wide and varied study. In my book on super-futurism, I do not give the truth, but I search for it. The truth blinds us because it is too evident. We, Arab people, are out of the civilization history because we refuse reason and knowledge. I am a traditionalist and not a revolutionary because I believe in reason and knowledge. And we should admit that we will become the slaves of our masters if we don’t adhere to those two key-elements. As for the super-futurism, the essence of things is defined by the future. Speaking of a tree in Philosophy, adds Ajami while looking at the olive tree on the sidewalk through the glass bay, is speaking of its becoming, its leaves, its fruit…As for reason, we define it by its functions, because the future is far and it gradually turns into reality. That’s why I believe that history begins with the future. As for the language, it is heard that the meaning of the sentences is defined in time, while others say that they are undefined notions. The futurism settles the dilemma by asserting that sentences are defined in the future. Man is a being from the future. It is time for the Arabs to take care of the future instead of dying by holding on to the past. Nobody accepts the ideas of others, and that is why we have rejected the West. By refusing the other, we are refusing “ourselves”, and our heritage. “I” certainly do, but the others also do. If the others are hell...Then we should admit that the others are me



Fervent reader of Ghayabi, Avicenne, and Ibn Taymia, Hassan Ajami has already closed the book he was leafing through from time to time during the interview. Who are his readers? “Journalists, poets, and writers”, he said, a little bit amused and surprised by the fact that we thought about the readers. “In Tunisia and at the Bahrain University for example, they gave a lot of attention to my writings. Many debates were organized with epistolary relations and democratic applications. It is evident that there are readers who have the same preoccupations as mine. People who cannot publish their books and not those whose immediate preoccupations are to trade or to become ministers and deputies



And what about Hassan Ajami’s preparations for the near future, without playing on the word future? “I continue with my philosophical throw, he answers without batting an eyelid, Religious Philosophy and Philosophical literature. Above all, I would like to express philosophical ideas through my literary writing


This is Hassan Ajami, a hardworking man and an understanding, strong, honest, and simple erudite








الباحث اللبناني حسن عجمي :الثقافة الدينية أمست لدينا أداة لمحاربة وقتل بعضنا البعض



الباحث اللبناني حسن عجمي :الثقافة الدينية أمست لدينا أداة لمحاربة وقتل بعضنا البعض


أجرت المقابلة : سارة علي
القاهرة 7تشرين الاول/اكتوبر(آكانيوز)-يرى الكاتب والباحث اللبناني حسن عجمي ان المشهد اللبناني لا يختلف عن المشهد العربي والاسلامي بشكل عام،معتبراً ان هذا المشهد مازال متخلفاً لانه يرفض العلم والمنطق،عدا ذلك فانه يستخدم العلوم والتكنولوجيا من أجل التجهيل،ويضيف عجمي ان وظائف الفلسفة هي تحليل المفاهيم كمفهوم الحقيقة وتفسير الظواهر وحل المشاكل الفكرية، وهذا ما يجعل الفلسفة مرتبطة بالضرورة بالعلوم،ونفى من خلال متن المقابلة الاتية التي اجرتها معه مراسلة وكالة كردستان للانباء (اكانيوز)وجود فلسفة عربية معاصرة،ودين بالمعنى الحقيقي ،مشدداً على اننا لوكنا مسلمين أو مسيحيين حقيقيين، ما كنا طائفيين ومتناحرين ،كما اكد عجمي على ان الثقافة الدينية أمست لدينا أداة لمحاربة وقتل بعضنا البعض.

•كيف يمكن لنا تقييم أفكارك الخاصة عن الضيمياء والسوبر تخلف بالنسبة إلى المشهد الفكري في لبنان؟
-لايختلف المشهد اللبناني عن المشهد العربي والاسلامي بشكل عام. فنحن سوبر متخلفون لأننا نرفض العلم والمنطق ونستخدم العلوم والتكنولوجيا من أجل التجهيل. يوجد فرق أساسي بين التخلف و السوبر تخلف. الشعب المتخلف هو الشعب الذي لا يقدم ما هو مفيد للعالم والبشرية، بينما الشعب السوبر متخلف هو الذي يطوّر التخلف من خلال إستغلال العلم والتكنولوجيا من أجل نشر الجهل. فمثلا ً كل مذهب أو طائفة في لبنان وفي العالم العربي لديها مدارسها وجامعاتها ووسائل إعلامها، والوظيفة الأساسية لهذه المؤسسات هي معاداة ومحاربة المذاهب والطوائف الأخرى. هكذا نستخدم العلم والتكنولوجيا من أجل التجهيل . كما أن معظم نصوصنا وخطاباتنا في لبنان والعالم العربي خالية من أسس علمية وتعارض المنطق، فتقع في التناقض والدور والمصادرة على المطلوب.و هذا رفض واضح للمنطق و أساس سوبر تخلفنا.
أما فكرة الضيمياء الأساسية فهي تفكيك نظرية أن الإنسان محور الكون. من هذا المنطلق تقول الضيمياء إن كل شيء وظيفته كامنة في تحقيق ذاته واستمراريته، فالأشياء والظواهر ليست أدوات في خدمة الإنسان. فمثلا ً وظيفة الحياة قائمة في الحفاظ على ذاتها واستمرارية وجودها ولا تهدف الحياة إلى جعلنا نحن بالذات أحياء. لذا بيولوجياً ينقسم الجسد الحي إلى جسدين: جسد يتكون من خلايا تسعى إلى إبقائه حيّا ً وجسد يتكون من خلايا تسعى إلى إماتته. هكذا تكتسب الضيمياء قدرتها التفسيرية مقبوليتها. فالخلية الحية أداة لخدمة ذاتها وليست أداة لخدمتنا نحن. كما تنسف الضيمياء قيمنا التقليدية فمثلاً تعتبرأن الزندقة الفكرية فضيلة بمعنى أنه من الأفضل أن تكون معتقداتنا غير محددة وبذلك نتحررمن ذواتنا باستمرار. لكننا في لبنان وفي عالمنا العربي نرفض أي تفكيرممكن لأننا في الأساس نرفض العلم وما يرتبط به من منطق وفلسفة. فما زلنا نؤمن بمركزية الإنسان وبيقينياتنا الكاذبة.
•هل يمكن اعتبار التفكير بالفلسفة والبحث عن حلول وبدائل هي مهمة الفلسفة أم ادلجة لها؟
-تكمن أهمية الفلسفة في وظائفها المعرفية والاجتماعية. فمن وظائف الفلسفة تحليل المفاهيم كمفهوم الحقيقة وتفسير الظواهر وحل المشاكل الفكرية. وهذا ما يجعل الفلسفة مرتبطة بالضرورة بالعلوم. فمعظم الفلاسفة الكبار هم علماء ومعظم العلماء الكبار هم فلاسفة. فمثلا ً حين رفض أينشتاين نظرية ميكانيكا الكم قائلاً إن الله لا يلعب بالنرد، حينها كان يلعب أينشتاين دور الفيلسوف. والفلسفة ضرورة اجتماعية لأن أي مجتمع يتكوّن على ضوء فلسفته فإن كانت فلسفته متطورة كان متطورا ً، وإن كانت فلسفته متخلفة كان متخلفاً. ونحن اليوم بلا فلسفة وبلا علم لذا أمسينا خارج الحضارة والمجتمع والتاريخ. لا أيديولوجيا مع الفلسفة لأن الفلسفة كالعلم تماما ً عملية تصحيح مستمرة. فكما أن النظريات العلمية تستبدل بنظريات علمية أخرى كاستبدال نظرية نيوتن بنظرية أينشتاين كذلك تستبدل النظريات الفلسفية. من هنا لا توجد يقينيات في الفلسفة والعلم. لذا لا أيديولوجيا أي لا عقيدة ثابتة ويقينية مع الفلسفة والعلوم. من هنا تحررنا الفلسفة و يحررنا العلم. ورفضنا لهما يفسر لماذا نحن سجناء أنفسنا ونحيا في قبور أجدادنا.
•كيف تقيم نقد العقل الديني في الخطاب العربي الفلسفي المعاصر؟
-أولا ً، لا توجد فلسفة عربية معاصرة. ثانيا ً لا دين لنا بالمعنى الحقيقي لأننا لو كنا مسلمين أو مسيحيين حقيقيين ما كنا متناحرين وطائفيين وما كانت سيطرت علينا حروبنا الأهلية الدائمة.فلا يوجد دين يدعو إلى العنف و الارهاب كما نفعل.و ما نمارسه من ديانة مجرد استغلال للدين من أجل التجهيل وإلا كنا نحيا في حضارة متطورة. لقد أمست الثقافة لدينا ومنها الثقافة الدينية أداة لمحاربة وقتل بعضنا البعض. و أصبح المثقف كافرا ً كان أم مؤمنا ً وسيلة لخدمة السلطان. هكذا مات المثقف العربي ولم يجد من يدفنه. فلا ثقافة مع رفض المنطق و العلم و الفلسفة. ولا دين من دون وجود إنسان. فالإنسان فينا قد انتحر لأن حقوقه غائبة.على هذا الأساس كان نقدنا للعقل الديني نقداً مشوهاً لأننا نرفض المنطق و العلم و لا نعتمد عليهما في أي نقد جاد.فلم نصل إلى أية نتائج جديدة من خلال نقدنا للخطاب الديني لأننا أصلاً نرفض العلم و مناهجه.

•ما هي المصادر الفلسفية التي تقف وراء تفكيرك وتعيد قراءتها غالبا؟
-كل الكتب الفلسفية هي مصادري لأنني أؤمن بالسوبر حداثة باعتبارها علم الأفكار الممكنة. بالنسبة إلى السوبر حداثة تتساوى كل النظريات لأنها صادقة في أكوان ممكنة مختلفة. هكذا تجعلنا السوبر حداثة منفتحين على كل فكر ممكن وتسمح لنا أن نبني أفكاراً قد تكون صادقة في أكوان ممكنة بدلا ً من أن تكون صادقة بالضرورة في عالمنا الواقعي. تحررنا السوبر حداثة من خلال دعوتها إلى دراسة العوالم الممكنة، وهي بمثابة ردة الفعل على سوبر تخلفنا. أعيد قراءة كل مصادري لأني أعيد قراءة ذاتي باستمرار.
•هل اطلعت على تجارب الكتابة الفلسفية في العراق هل قرأت علي الوردي وحسام الآلوسي وغيرهم أم لا؟
- قراءة التجارب الفلسفية العراقية جزء أساسي من ثقافة أي باحث في الفلسفة. لذا من الطبيعي أن أكون على علم بالتجارب الفلسفية في العراق. فنحن اليوم نحاول أن نكمل المسيرة الفلسفية الموعودة اعتماداًًعلى أبحاث العلماء والفلاسفة كافة. فكما تأثرنا بتراثنا العلمي والفلسفي وبفلسفات وعلوم عصرنا من المتوقع أن نتأثر بأبحاث معاصرينا كالدكتور علي الوردي وحسام الآلوسي. فالتأكيد على إزدواجية الفرد لدى علي الوردي نبهنا إلى حقيقة أننا نرفض المنطق والتفكير الموضوعي، وهذا أساس سوبر تخلفنا. وإصرار حسام الآلوسي على اعتماد المنهج العلمي الموضوعي يدفعنا دوماًً إلى الدفاع عن العلم والكتابة عن النظريات العلمية المعاصرة ومحاولة نشرها في شرقنا. لكن كل هذه المحاولات منعزلة و مرفوضة من قبل الأغلبية بسبب لا منطقية تفكيرنا و معاداتنا للبحث العلمي. و معظم ما ورد في الابحاث الفكرية العربية المعاصرة مجرد أبحاث في علم الاجتماع و علم النفس بدلاً من أن يكون فلسفة حقاً لأننا ابتعدنا عن التفكير الفلسفي كالتساؤل عما هو المعنى و عما هي الحقيقة .
•كيف تنظر إلى الواقع الراهن في لبنان وهل الطائفية تنطوي على وجهة حق معينة؟
-من المستحيل أن تملك الطائفية وجهة حق لأن الطائفية تلغي إنسانية الإنسان. فعندما نكون طائفيين ننظر إلى بعضنا البعض من خلال طوائفنا أو مذاهبنا بدلاًً من أن ننظر إلى بعضنا البعض من خلال إنسانيتنا المشتركة. لقد خسرنا الانسان لأننا طائفيون بإمتياز. والطائفية قد قتلت كل المجتمعات العربية والإسلامية، وأوضح أمثلة على ذلك العراق ولبنان. فمثلاًً لا يوجد مجتمع لبناني بل نحن منقسمون إلى قبائل طائفية و مذهبية متصارعة على الدوام. وهذا ما أدى إلى استحالة قيام دولة لبنانية. الطائفية دفنت المجتمع اللبناني ودمرت إمكانية نشوء دولة لبنانية. النظام اللبناني نظام دكتاتوري في طائفيته. أما إعلامنا فكاذب. ولم نكتفِ بالطائفية بل تحولنا أيضاً إلى سوبر طائفيين حيث تم اختزال الطوائف في زعمائها وتحول الصراع من صراع على العقائد إلى صراع على مصالح الزعماء الطائفيين. في السوبر طائفية تزول العقائد والمعتقدات الدينية ويبقى الصراع الطائفي والمذهبي. فمثلا ً قليل منا من يعلم ما الفرق بين الشيعة و السنة لكننا كلنا نجيد لعبة الصراع الطائفي والمذهبي.

•ما هو رأيك في خطاب ما بعد الحداثة ؟ وهل يمكن لنا الحديث عن خطاب مماثل في الثقافة العربية؟

-حاولت أن أخرج من الحداثة ومن ما بعد الحداثة من خلال طرح فلسفة السوبر حداثة. باختصار, تقول الحداثة إن الكون محدد ولذا من الممكن معرفته بينما تقول ما بعد الحداثة إن الكون غير محدد و لذا من غير الممكن معرفته. لكن السوبر حداثة تختلف عنهما لأنها تعتبر أن الكون غير محدد و رغم ذلك من الممكن معرفته. بالنسبة إلى السوبر حداثة, من خلال لا محددّية الكون من الممكن تفسيره, وبذلك تجمع السوبر حداثة بين لا محددّية الكون و إمكانية المعرفة. فمثلا ً, تقول السوبر حداثة إنه من غير المحدد أية نظرية علمية هي النظرية الصادقة, ولذا من الطبيعي أن توجد نظريات علمية عديدة كلها ناجحة في تفسير و وصف الكون رغم اختلافها وتعارضها. هكذا تفسر السوبر حداثة هذه الحقيقة وبذلك تكتسب قدرتها التفسيرية فمقبوليتها. وهذا الموقف السوبر حداثوي يختلف عن موقف ما بعد الحداثة لأن ما بعد الحداثة تقول إن النظريات العلمية الناجحة ليست صادقة ولا كاذبة بل فقط مقبولة. كما تختلف السوبر حداثة عن الحداثة لأن الحداثة تعتبر أن النظريات العلمية الناجحة صادقة من جراء نجاحها في تفسير الكون. أما معظمنا اليوم في العالم العربي والاسلامي فنرفض الفلسفة أصلا ً, ومدعو الثقافة لا يعرفون ما الفرق بين الحداثة وما بعد الحداثة بل أصبحوا خدماً لدى السلطان وسفارات الدول الأجنبية. لا يوجد عقل فلسفي حقيقي في العالم العربي اليوم ،لأن لا فلسفة من دون منطق، ونحن نعادي المنطق أصلاً. لذا عندما أكتب في السوبر حداثة أخاطب إنسانا ً وقارئاًً افتراضياًً.
•لوطلب منك أن تلخص حسن عجمي ،فماذا تقول؟
-أنا ربع إنسان كباقي العرب والمسلمين لأن حقوقنا الإنسانية غائبة. أنا مجرد ساعٍ الى تحقيق إنسانيتي من خلال البحث الفلسفي.
•كيف يمكن أن يكون العالم خالياً من الغرضية او الغائية كما تقول؟

-حين نكون غير محددين كما تدعونا السوبر حداثة, سنتحرر من معتقداتنا ومشاعرنا وسلوكياتنا المسبقة , وبذلك نستطيع أن نقبل الآخرين ما يجعل من الممكن أن نحقق إنسانيتنا. لابد من أن نتحرر من ذواتنا بإستمرار. ويتم ذلك من خلال تحويل يقينياتنا إلى أفكار ممكنة فقط , وبذلك لن نتعصب لها ما يسمح لنا أن نبني مجتمعات إنسانية حقيقية. فالأخلاق كامنة في اللامحدد تماما ً كما العلم والفلسفة.
•هل أنت من دعاة موت الفلسفة او نهايتها؟

-طبعا ًلا. لأن الفلسفة مرتبطة بالعلم. فإذا رفضنا الفلسفة و نادينا بموتها سنرفض العلم. لكن العلم أساس الإنسان و المجتمع والديموقراطية.•
ماذا تفعل الآن في القاهرة؟

-أحاول في القاهرة أن أمارس حياة إنسان طبيعي. فطائفيتنا في لبنان هي بمثابة الدعوة الى مغادرته.القاهرة ذاكرة كل إنسان شرقي منتصر في هزائمه ومنهزم في انتصاراته.

يذكر ان الكاتب اللبناني حسن عجمي هو شاعر وكاتب وباحث في الفلسفة وحاصل على البكالوريوس فلسفة من الجامعة الأمريكية في بيروت وشهادة الماجستير في فلسفة المعرفة والميتافيزياء من جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية ومن مؤلفاته كتاب مقام الراحلين – 2000 – المكتب العالي للطباعة والنشر ومعراج المعنى – 2001 – مطبعة المستقبل صيدا ، لبنان ومرايا العقول : الشعر العلمي – 2003 – دار النضال ، لبنان و وحي اللغة : بيان اللامعنى – 2003 – دار النضال ، لبنان و مقام المعرفة : فلسفة العقل والمعنى - 2004 – دار كتابات، لبنان و السوبر حداثة : علم الأفكار الممكنة – 2005 – بيسان ، لبنان و السوبر مستقبلية : الكون والعقل واللغة – 2006 – بيسان ، لبنان والسوبر أصولية – 2007 – الدار العربية للعلوم ، ناشرون ، لبنان والشعر العلمي – 2007 – الدار العربية للعلوم ، ناشرون ، لبنان والسوبر معلوماتية & وعلم الأفكار المستحيلة – 2007 - الدار العربية للعلوم ، ناشرون ، لبنان والسوبر تخلف – 2007 - الدار العربية للعلوم ، ناشرون ، لبنان والسوبر مثالية – 2007 - الدار العربية للعلوم ، ناشرون ، لبنان والميزياء : الجيزياء& الحيزياء – 2008 - الدار العربية للعلوم ، ناشرون ، لبنان والبينياء : الصيرياء& الحيرياء - 2008 - الدار العربية للعلوم ، ناشرون ، لبنان و الضيمياء - 2008 - الدار العربية للعلوم ، ناشرون ، لبنان


الاثنين، 1 مارس 2010

ميزياء العلم بين السوبر حداثة والسوبر مستقبلية

ميزياء العلم بين السوبر حداثة والسوبر مستقبلية


حســــن عجمـــي

نرصد في هذا المقال آخر النظريات العلمية ومن ثم نربطها بفلسفة الميزياء والسوبر حداثة والسوبر مستقبلية. فالفلسفة والعلم ينموان معا ً وهما زوجان لا طلاق بينهما.
بالنسبة إلى الميزياء، كل شيء له ميزة تميزه عن الأشياء الأخرى وعلى ضوئها يتشكّل ويكون. الميزياء فلسفة الميزة بينما السوبر حداثة هي الفلسفة التي تعترف بلا محددية الأشياء والحقائق والظواهر وتدرس الكون من خلال لامحدوديته. أما السوبر مستقبلية فتؤكد على موقف السوبر حداثة فتقول إن الأشياء والحقائق محدَّدة فقط في المستقبل.وبما أن المستقبل لم يتحقق كليا ً في الحاضر والماضي. إذن ما تزال الحقائق والأشياء غير محدَّدة في الحاضر والماضي. على أساس هذه التعاريف ترتبط الميزياء بالسوبر حداثة والسوبر مستقبلية وتتمكن معا ً من تفسير ظاهرة العلم. بالنسبة إلى الميزياء، الأشياء تملك ميزات بدلا ً من أن تملك ماهيات. والأشياء قد تخسر ميزاتها وتكتسب ميزات أخرى مختلفة على نقيض مما قد يحدث إذا كانت للأشياء ماهيات. من هنا تبقى الظواهر والحقائق والأشياء غير محدَّدة تماما ً كما تبشّر السوبر حداثة والسوبر مستقبلية. وعلى ضوء اجتماع الميزياء والسوبر حداثة والسوبر مستقبلية يظهر العلم على حقيقته ألا وهي أن العلم ظاهرة غير محدَّدة ولذا يتغير العلم وتتغير نظرياته وتختلف. هكذا يتم تفسير تغير العلم وتطوره.
تنوع النظريات العلمية واختلافها :
تتنوع النظريات العلمية وتختلف عن بعضها البعض ما يشير إلى أن العلم يصحح ذاته باستمرار. على هذا الأساس تقول الميزياء إن ميزة العلم كامنة في أنه عملية تصحيح مستمرة. لكن لماذا العلم كذلك؟ هنا تجيب السوبر حداثة قائلة إن العلم عملية تصحيح مستمرة لأنه من غير المحدَّد ما هو العلم. فبما أنه من غير المحـدَّد ما هو العلم. إذن من الطبيعي أن يكون العلم عملية تصحيح مستمرة. هكذا أيضا ً ترتبط الميزياء بالسوبر حداثة. ثمة أمثلة كثيرة على تنوع النظريات العلمية واختلافها وصراعها منها الأمثلة التالية: نظرية التضخم أكثر انتشارا ً وقبولا ً اليوم من غيرها لكنها تنافس النظرية الدورية في الكون. بالنسبة إلى نظرية التضخم كما بناها الفيزيائي آلن غوث. الكون قد نشأ من جراء الانفجار العظيم ومن ثم تضخم بشكل كبير في زمن قصير جدا ً ما جعل الكون منسجما ً ومسطحا ً. هكذا تفسـِّر نظرية التضخم لماذا الكون مسطحا ومنسجم في توزيع مواده بحيث لا يوجد فرق كبير في انتشار المادة والطاقة في الأمكنة المختلفة من الكون (Alan Guth: The Inflationary Universe.1997. Jonathan Cape).
أما الفيزيائيان بول ستينهردت ونيل طورق فينتقدان نظرية التضخم على أساس أنها لا تفسـِّر لماذا حدث الانفجار العظيم. وينطلقان نحو بناء نظرية أخرى هي النظرية الدورية التي تعتبر أن الكون غير متناه ٍ. بالنسبة إلى النظرية الدورية. تاريخ الوجود يتكـوّن من دورات متكررة من النشوء والتطور بحيث أن كل دورة تبـدأ بانفجار عظيم. لكن هـذا الانفجـار ليس بداية الزمان والمكان بل يسبقه انفجار عظيم آخر كما يلحقه انفجار ثان ٍ في دورة مستقبلية أخرى. هكـذا الكون لامتناه فلا توجد بداية للكون ولا نهاية. بل الكون يتشكـّل من دورات لامتناهية من انفجارات عظيمة تسـبِّب خلق عالمنا كما هو فيتكرر وجوده في كل دورة وتنشـأ الحقائق ذاتها من جديد إلى ما لا نهاية. وبما أن الكون أزلي. إذن لا توجد بداية لنشوء الكون. وبذلك تتجنب هذه النظرية حــلّ مشكلة كيف نشأ الكون ولماذا (Paul Steinhardt and Neil Turok : Endless Universe. 2007. Doubleday). بالإضافة إلى ذلك. يقـدِّم الفيزيائي جواو ماكيويجو نظرية علمية أخرى تختلف عن نظرية التضخم والنظرية الدورية وتعارضهما. بالنسبة إلى هذه النظرية. سرعة الضوء متغيرة وليست ثابتة. ومن خلال ذلك يتم تفسير نشوء المادة ولماذا الكون مسطح ومنسجم. تقول هذه النظرية : بما أن سرعة الضوء متغيرة. إذن الطاقة القائمة في الفراغ لن تبقى مستقرة. وبذلك تتحـوّل إلى مادة فيتكـوّن الكون. وتضيف التالي : بما أن سرعة الضوء كانت في بداية الوجود أسرع مما هي عليه الآن. وبما أنه مع ازدياد سرعة الضوء تزيد طاقة الفراغ ومع نقصان سرعة الضوء تنقص طاقة الفراغ. إذن ستنتقل الطاقة المُحـرَّرة من الأمكنة الأكثر كثافة إلى الأمكنة الأقل كثافة. وبذلك يصبح الكون منسجما ً ومسطحا ً بفضل تغير سرعة الضوء (Joao Magueijo : Faster Than The Speed of Light. 2003. Perseus Publishing).
هكذا تتنافس نظرية التضخم والنظرية الدورية ونظرية ماكيويجو كما تتنافس تماما ً النظرية النسبية لأينشتاين مع نظرية ميكانيكا الكم ّ. فبينما تقول النظرية النسبية إن الكون حتمي. تعتبر ميكانيكا الكم ّ أن الكون غير حتمي. هذه بعض الأمثلة على اختلاف النظريات العلمية وتعارضها. ولا مفر من تفسير لماذا تختلف النظريات العلمية وتتعارض رغم أنها كلها علمية وناجحة إلى حد ما. ويتم تفسير ذلك من خلال الميزياء مدعومة بالسوبر حداثة. فميزة العلم أنه عملية تصحيح مستمرة لأنه من غير المحدَّد ما هو العلم. لذا من الطبيعي أن تختلف النظريات العلمية وتتعارض.
تنوع المنهج العلمي واختلافه :
تقول الميزياء إن ميزة المنهج العلمي كامنة في اختلافه وتنوعه. وتفسـِّر السوبر حداثة ذلك على النحو التالي : بما أنه من غير المحـدَّد ما هو المنهج العلمي. إذن من الطبيعي أن تكون ميزة المنهج العلمي قائمة في تنوعه واختلافه. وهذا ما نجده بالضبط في ميدان العلم.يعتبر الفيزيائي لي سمولن أن الفيزياء قد تمتعت بنمو كبير في القرون الماضية نتيجة تزاوج النظريات والاختبار العلمي. فالأفكار خضعت للتجربة وبُرهن على صدقها، وفسـِّرت الاكتشافات من خلال هذه النظرية الفيزيائية أو تلك. لكن منذ الثمانينات من القرن المنصرم تغير المشهد الفيزيائي. في العقود الأخيرة لم يتمكن الفيزيائيون من تحقيق اكتشافات أساسية من خلال التجارب العلمية وتفسيرها على ضوء النظريات الفيزيائية. يضيف سمولن أن المشكلة كامنة في أن الفيزيائيين لم يتمكنوا من تطوير معرفتنا بقوانين الطبيعة. هكذا وقعت الفيزياء في مشكلتها (Lee Smolin : The Trouble With Physics. 2006. Houghton Mifflin Company. PP.xi – xii). يُـقدِّم سمولن تصورا ً لمنهج العلم مفاده أنه في العلم لابد من الاعتقاد بصدق نظرية ما فقط إذا تنبأت بتنبؤ جديد وظهر تنبؤها على أنه صادق من جراء الاختبار العلمي. أما إذا أدت النظرية إلى تنبؤات كاذبة. حينها فقط تـعتبَر نظرية كاذبة. بمعنى آخر. العلم هو القابل للتكذيب أو التصديق من خلال التجربة. أي لابد أن يكون للنظرية العلمية تنبؤات محـدَّدة من الممكن البرهنة على صدقها أو كذبها. والأزمة الحالية بالنسبة إلى سمولن هي أن النظريات التي طرحت في الثلاثين سـنة الأخيرة هي إما نظريات أظهرت كذبها وإما أنه يستحيل اختبار ما إذا كانت صادقة أم كاذبة. ومثل على ذلك نظرية الأوتار. بالنسبة إلى نظرية الأوتار. كل الكون يتكـوّن من أوتار لها ذبذبات مختلفة. ومن جراء اختلاف ذبذباتها تنشأ كل الطاقات والجسيمات. هذه الأوتار تستلزم وجود أبعاد عديدة إضافة إلى الأبعاد الأربعة المعروفة وهي الطول والعرض والعمق والزمن. وبفضل وجود الأوتار في أبعاد مختلفة تنمو القوى المختلفة في الطبيعة. يشير سمولن إلى أن نظرية الأوتار قد سيطرت على فكر العديد من العلماء رغم أننا لا نعرف ما إذا كانت صادقة. يقول إن هذه النظرية لا تتنبــأ بــأي تنبــؤ جديد. وبذلك يستحيل معرفة ما إذا كانت صادقة أم كاذبة من خلال التجربة العلمية. على هذا الأساس يستنتج سمولن أن نظرية الأوتار لا ترتقي إلى مستوى العلم الحقيقي بل أدت إلى تخبط الفيزياء. والأسوأ من ذلك أن نظرية الأوتار لا تشـكِّل نظرية حقا ً بل هي مجموعة كبيرة من الحسابات التقريبية. من هنا يقول إننا لا نعرف حقا ً ماذا تقول نظرية الأوتار. ورغم أنها غير مكتملة ولا يوجد برهان على صدقها. هذا لا يمنع العديد من الفيزيائيين من العمل على أساسها والإيمان بها واعتبارها الطريق الوحيد نحو تقدم الفيزياء. هكـذا ينقسم الفيزيائيون إلى معتقدين بنظرية الأوتار ورافضين لها (PP. xiii – xvii. P.47 PP. 169 – 171. PP. 178 – 179). يؤكد لي سمولن على أنه رغم قدرتها التفسيرية تعاني نظرية الأوتار من مشاكل عدة منها أيضا ً المشكلة التالية : ثمة حلول عديدة ومختلفة إن لم تكن لامتناهية لمعادلات نظرية الأوتار. وبذلك تنقسم نظرية الأوتار إلى نظريات مختلفة وعديدة. أما نظريات الأوتار المعروفة فلا تتفق مع حقائق العلم. ورغم ذلك مازال العلماء يقبلون بنظرية الأوتار لجماليتها في وصف العالم. هؤلاء العلماء يتجهون نحو اعتبار أن كل نظريات الأوتار الممكنة هي مجرد أوصاف ممكنة لعالمنا. وبذلك ثمة نظريات ممكنة ولا متناهية في نظرية الأوتار ذاتها. وإذا كانت كلها منسجمة ذاتيا ً ستؤدي إلى نتيجة أنه توجد أكوان ممكنة لامتناهية في العدد. لكن بالنسبة إلى سمولن. هذا يبرهن على فشل نظرية الأوتار؛ فالهدف الأساسي منها هو توحيد القوى والجسيمات الطبيعية وبدلا ً من ذلك وصلنا إلى نظريات لامتناهية ومختلفة (PP. 158 – 160. PP. 193 – 194.PP. 197 – 198. PP. 276 – 277).
هذا النقد لا يُشـكِّل تحطيما ً لنظرية الأوتار علما ً بأنه أولا ً مازال العديد من العلماء يدرسون الكون على أساسها. وثانيا ً عدم اتفاق نظريات الأوتار المعروفة مع حقائق العالم وتنوع نظريات الأوتار واختلافها ولا تناهيها في العدد قد يشير كل هذا إلى أن العلم يدرس الأكوان الممكنة المختلفة واللامتناهية كما تقول السوبر حداثة بالضبط. ويستمر الجدل وهذه ميزة العلم الأساسية ؛ فالعلم عملية تصحيح مستمرة. ولذا هو علم وليس خرافة. أما سمولن فيعتمد على نظرية معينة في تحليل المنهج العلمي ألا وهي أن المنهج العلمي يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار فالتكذيب أو التصديق. وعلى هذا الأساس يرفض نظرية الأوتار. لكن كما أكد سمولن نفسه يوجد العديد من العلماء الذين يقبلون نظرية الأوتار ويعملون على أساسها. وبذلك لابد أنهم يتبنون نظرية أخرى في تحليل المنهج العلمي تختلف عن نظرية سمولن. أي لابد أنهم مقتنعون بأن المنهج العلمي لا يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار والتأكيد على كذبها أو صدقها. ولذا هؤلاء العلماء مستمرون في قبول نظرية الأوتار رغم أنها لا ترتبط بالاختبار. هكذا نجد أن العلماء منقسمون حول ما هو المنهج العلمي. على هذا الأساس نستنتج أنه من غير المحدَّد ما هو المنهج العلمي تماما ً كما تؤكد السوبر حداثة ؛ فمن غير المحدَّد ما إذا كان المنهج العلمي يستلزم بالضرورة الاختبار أم لا.بما أنه من غير المحدَّد ما هو المنهج العلمي. إذن من الطبيعي وجود نظريات علمية مختلفة باختلاف المنهج المُعتمَـد. ولذا أيضا ً توجد نظريات كنظرية الأوتار رغم عدم ارتباطها بالاختبار كما توجد نظريات أخرى مرتبطة بالاختبار. هكذا نتمكن من تفسير اختلاف المنهج العلمي واختلاف النظريات العلمية ما يدعم موقف الميزياء أيضا ً لأن الميزياء تقول إن ميزة المنهج العلمي كامنة في اختلافه وتنوعه. بالنسبة إلى الميزياء، لكل شيء ميزة تميزه. وبذلك لا يوجد شيء مطابق لشيء آخر وإن تشابها في التفاصيل. من هنا لا يوجد علم شبيه بعلم. ولذا ميزة العلم قائمة في اختلاف منهجه ونظرياته ولذا العلم عملية تصحيح مستمرة. هكذا تتمكن الميزياء من تفسير تنوع المنهج العلمي واختلاف النظريات العلمية فتكتسب مقبوليتها.
الأكوان الممكنة وتفسير عالمنا :
يتبنى الفيزيائي ميشيو كاكو نظرية مفادها أنه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة. ويرينا كيف أن النظريات العلمية المعاصرة تؤيد موقفه . فمثلا ً. نظرية الأوتار تؤدي إلى نتيجة أنه ثمة أكوان ممكنة مختلفة. بالنسبة إلى نظرية الأوتار. كل شيء يتكوّن من أوتار وأنغامها ؛ فمع اختلاف أنغام الأوتار تختلف الجسيمات. فالذرات تتكوّن من جسيمات. والجسيمات كالإلكترون والفوتون تتكوّن من أوتار. باختصار. العالم سمفونية الأوتار. لكن نظرية الأوتار تستلزم وجود أبعاد عدة بالإضافة إلى الأبعاد المكانية الثلاثة والبُعد الزماني. هذه الأبعاد تلتف حول نفسها بحيث لا نراها في عالمنا. وبما أن الكون يحتوي على هذه الأبعاد المختلفة بهندساتها المتنوعة. وعلما ً بأن قوانين الطبيعة تعتمد على هندسة الطبيعة وبذلك تختلف القوانين الطبيعية باختلاف هندسات الطبيعة. إذن من المتوقع أن تشكِّل هذه الأبعاد العديدة أكوانا ً مختلفة في قوانينها وحقائقها. هكذا تؤدي نظرية الأوتار إلى نتيجة أنه توجد أكوان عديدة ومختلفة (Michio Kaku : Parallel Worlds. 2005. Doubleday. PP.xvI – xvII. P. 18. PP.. (199 – 200 كما يشير كاكو إلى حقيقة أنه قد تم اكتشاف بلايين من الحلول لمعادلات نظرية الأوتار. وكل حلّ من هذه الحلول يصف كونا ً متناسقا ً رياضيا ً ومختلفا ً عن الأكوان الأخرى التي تصفها الحلول الأخرى لنظرية الأوتار. هكذا تدل نظرية الأوتار على وجود أكوان عديدة PP. 207 – 208. P. 240».بالإضافة إلى ذلك. يُقدِّم ميشيو كاكو حجته الخاصة على وجود الأكوان الممكنة على النحو التالي : بمجرد أن نسمح بإمكانية نشوء عالم واحد. نفتح الباب أمام احتمال نشوء عوالم ممكنة ولامتناهية. فبالنسبة إلى ميكانيكا الكم ّ. الإلكترون لا يوجد في مكان مُحدَّد بل يوجد في كل الأمكنة الممكنة حول نواة الذرة. لكن الكون قد كان أصغر من الإلكترون. وبذلك إذا طبقنا ميكانيكا الكمّ على الكون ككل. تصبح النتيجة أن الكون يوجد في كل الحالات العديدة والمختلفة والممكنة. وهذه الحالات الممكنة والمختلفة ليست سوى الأكوان الممكنة. وبذلك يستنتج كاكو أنه لا مفر من الاعتراف بامكانية وجود الأكوان الممكنة (PP. 92 – 93. P. 179 ). ويوضِّـح كاكو أن هذه الأكوان الممكنة ليست المجرات المختلفة في عالمنا بل المجرات جزء من عالمنا الواقعي بالذات. وعلى الأرجح الأكوان الممكنة منفصلة عن عالمنا وعن بعضها البعض وقد تشبه عالمنا وقد تختلف عنه. فبعض من الأكوان الممكنة تختلف في قوانينها الطبيعية وحقائقها وظواهرها عن الأكوان الممكنة الأخرى وعن عالمنا الذي نحيا فيه. والعديد من الفيزيائيين اليوم يعتقدون بقوة بأن هذه الأكوان موجودة بالفعل (P. 96. P.101. P. 107. P.184 ). كل هذا يدعم السوبر حداثة التي تدعو إلى دراسة الأكوان الممكنة وتعتبر أن اللامحدَّد يحكم العالَـم والوجود لاختلاف الأكوان الممكنة عن بعضها البعض.أما الفيزيائي مارتن ريز فيفسِّر لماذا يوجد عالَـم كعالمنا من خلال وجود الأكوان الممكنة. يقول ريز : بما أنه توجد أكوان ممكنة ومختلفة وعديدة إن لم تكن لا متناهية، إذن ليس من المستغرب أن يوجد عالم كعالمنا يملك قوانينه وحقائقه بالذات. ومثال ذلك إذا دخلنا إلى متجرة لبيع الثياب حيث توجد ثياب بمقاسات مختلفة وعديدة. لن يكون حينئـذٍ من المستغرب أن نجد ثوبا ً بمقاسنا. هكذا ليس من الغريب أن يوجد عالمنا بالذات (Martin Rees : Our Cosmic Habitat. 2001. Princeton University Press).
من المنطلق نفسه يفسِّر الفيزيائي ليونارد سسكيند لماذا عالمنا مناسب جدا ً لوجود الحياة. يشرح لنا سسكيند كيف أن عالمنا هو الأفضل لنشوء الحياة واستمرارها. ويُـقدِّم أمثلة عديدة على ذلك منها أن أي اختلاف في قوانين الفيزياء يؤدي إلى نهاية الحياة أو عدم نشوئها أصلا ً. وأي تغير في خصائص الجسيمات كالإلكترونات أو الفوتونات سيؤدي إلى انهيار الكيمياء التي نعرفها ما يدفع إلى القضاء على الحياة كليا ً. وليست فقط القوانين الطبيعية والجسيمات وصفاتها تسمح بنشوء الحياة بل صفات الكون ككل كحجمه وسرعة نموه تلزم وجود الحياة وكأنها صُنِـعت من أجل أن توجد الحياة وتبقى. فمثلا ً. لو كانت الجاذبية أقوى بقليل عما هي عليه لتطور الكون ونما بسرعة هائلة ما لم يمنح الكون الوقت الكافي لنشوء الحياة. أما إذا كانت الجاذبية أضعف مما هي عليه لن تتكوّن حينئذٍ المجرات ونجومها وكواكبها وبذلك ما كانت الحياة لتوجد. كما أن تغيرات طفيفة في قوانين الكهرباء والفيزياء النووية تمنع تشكل الكربون الضروري لتكوين الحياة. وهذا يصدق أيضا ً على المواد الأخرى فكأن قوانين الطبيعة والمواد الطبيعية تآمرت على خلق الحياة (Leonard Susskind : The Cosmic Landscape. 2006. Back Bay Books. P.5.PP. 9-10). يعتبر سسكيند أن الكون مخلوق بأفضل تكوين. فالكون يكبر من خلال توسعه المثالي. لو كان تمدد الكون بسرعة أكبر لتناثرت مواده قبل أن تتجمع في مجرات ونجوم وكواكب. كما أن الكون في بدايته لم يكن كثير النتوءات ولم يكن أيضا ً أملس كثيرا ً. لو بدأ الكون أكثر نتوءا ً لانهار إلى ثقوب سوداء بدلا ً من أن يشكّل المجرات. ولو أن الكون بدأ أملس أكثر لم تنشأ المجرات والنجوم والكواكب لكونها نتيجة وجود النتوءات في بدايات الكون. أما الجاذبية فقوية كي تبقينا على سطح الأرض. لكنها إذا كانت أقوى لاحترقت المواد في قلب النجوم بسرعة وضمن ملايين السنين بدلا ً من بلايين السنين الضرورية لنشوء الحياة العاقلة. والقوانين الطبيعية أيضا ً تسمح بوجود الذرات ونواتها التي تتجمع في النهاية في جزيئات الحياة. كما أن قوانين الطبيعة هي الأفضل بحيث تسمح بنشوء الكربون والأكسجين والمواد الضرورية الأخرى للحياة وتجعلها تطبَـخ في النجوم الأولى وتنتشر في الكون من خلال انفجار النجوم. لذا يبدو أن قوانين الطبيعة قد خِيطت من أجل وجودنا (PP. 129 – 130). على أساس الملاحظات العلمية السابقة يسود السؤال التالي : لماذا تتآمر قوانين ومواد الطبيعة على خلق الحياة؟ وإجابة سسكيند معتمدة على فكرة وجود أكوان مختلفة في قوانينها وموادها وثوابتها الطبيعية. يقول : بما أنه توجد أكوان مختلفة وعديدة إن لم تكن لامتناهية. إذن من الطبيعي وجود عالم كعالمنا حيث توجد الحياة وتوجد كل القوانين والمواد الضرورية لنشوئها. هكذا يفسِّر سسكيند لماذا يوجد عالم كعالمنا بمواده وقوانينه بالذات التي تسمح بوجود الحياة. ويضيف أن وجودنا نتيجة حتمية لوجود الأكوان الممكنة العديدة والمختلفة (PP. 20-21. PP. 90 – 91. PP. 97 – 98. P. 176. P. 294 PP. 315 – 317. PP. 346 – 348).
لكن تفسير لماذا يوجد عالم كعالمنا من خلال نظرية وجود الأكوان الممكنة هو تفسير فاشل لسبب أساسي هو التالي : تسليمنا العلمي بوجود الأكوان الممكنة لا يتضمن بالضرورة وجود عالم كعالمنا يسمح بوجود الحياة والعقل. لنسلّم بأنه توجد أكوان لامتناهية ومختلفة. رغم ذلك من الممكن رياضيا ً سحب الأكوان التي تحتوي على العقل والحياة من سلسلة الأكوان الممكنة اللامتناهية وتبقى سلسلة الأكوان هذه مكوَّنة من أكوان لامتناهية. هكذا يؤكد علم اللامتناهيات في الرياضيات. على هذا الأساس السلسلة اللامتناهية من الأكوان الممكنة لا تتضمن بالضرورة وجود أكوان حاوية على الحياة والعقل. هكذا وجود الأكوان الممكنة لا يساعدنا في تفسير لماذا يوجد عالم كعالمنا حيث توجد الحياة ويوجد العقل.
التصميم العاقل والطبيعة الهادفة :
أما عالِم البيولوجيا مايكل بيهي فيتخذ موقفا ً معاديا ً للنظرية الداروينية فيقول إنها لا تقدِّم تفسيرا ً دقيقا ً للحياة. فالتحولات البيولوجية العشوائية والانتقاء الطبيعي والوراثة لا تكفي لنشوء الكائنات الحية ونجاحها في البقاء والاستمرار. بل لا بد من وجود طريق ارتقائي مُعبَّـد من نقطة بيولوجية إلى أخرى. هذا لأن الارتقاء الأعمى الذي تبشِّـر به الداروينية لا يؤدي إلى وجود الحياة ونجاحها في البقاء بسبب أن التطور الدارويني لا يعترف بوجود أهداف للطبيعة كهدف خلق الحياة. وبرهانه الأساسي على موقفه هو التالي : بما أن البنيات الحية شديدة التعقد وغير مختزلة إلى وحدات بيولوجية منعزلة. إذن الانتقاء الطبيعي والتحوّل العشوائي لا يفسِّران نشوء تلك البنيات. على هذا الأساس يستنتج أنه يوجد مصمِّم عاقل هو المسؤول عن خلق الحياة. يقول : الارتقاء الدارويني أعمى كونه خاليا ً من هدف بناء الحياة ونجاحها. فالآلية العمياء تفتقر إلى عملية بناء مقصودة لصفة معينة واستمرارية تحسينها. من هنا يستنتج بيهي أنه من غير المتوقع وجود تطور متجانس لصفة معينة من منطلق النظرية الداروينية. وهذا ما يخالف الواقع البيولوجي. فبما أن البنيات البيولوجية معقدة بشكل هائل. إذن من غير الممكن أن تبنَـى من خلال عملية تدريجية وبطيئة كالتي تدعو إليها الداروينية ولذا الآليات الداروينية عمياء (Michael Behe : The Edge of Evolution.2007. Free Press. PP. 5 – 8. PP. 41 -42. P. 102. PP.112 -113. PP. 121 – 122).
يقدِّم بيهي أمثلة تدعم موقفه منها المثل التالي : الخلية الحية تشكّل كُلا ً متماسكا ً وغير عشوائي كأنها مصنع تم تأسيسه بعناية. على هذا الأساس يستنتج أن الأنظمة البيولوجية العملية والمتجانسة والأنيقة التي تعتمد عليها الحياة هي نتيجة تصميم عاقل. والتصميم هو الترتيب الهادف للأجزاء. فالخلايا مثلا ً نتيجة تصميم هدفه خلق الحياة. بالنسبة إلى بيهي. الكون كله بما فيه الكون البيولوجي محكوم بنظام عاقل وواع . فبينما مبادئ النظرية الداروينية توقعت وجود العشوائية والبساطة في البنية الحية، اكتشفت العلوم البيولوجية المعاصرة أن البنيات الحية منظمة وأنيقة ومعقدة إلى حد كبير. ولا يكتفي بيهي بنتائجه تلك بل يمضي نحو اعتبار أن الكون كله نتيجة تصميم هدفه خلق الحياة. فيقول إن الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا تشير إلى ذلك. فمثلا ً. لو تغيرت القوانين الطبيعية ولو قليلا ً ما كانت الحياة لتنشأ (PP. 146 – 147. PP. 166 – 168. P. 190. P. 202. PP. 204 – 208).
أما الفيزيائي بول ديفيز فيعتبر أن الكون مكوَّن بدقة قصوى بحيث أنه إذا كانت أية صفة للكون (كصفات ذراته أو توزيع مجراته) تختلف ولو قليلا ً عما هي عليه ما كانت الحياة لتوجد. فمثلا ً. الكربون والماء السائل ضروريان لوجود الحياة. والقوانين الطبيعية كأنها مكوَّنة خصيصا ً لنشوء الحياة. عالمنا في كل معالمه صديق مخلص للحياة. فمثلا ً. يستحيل وجود الحياة في عالم بأبعاد مكانية غير أبعاده المكانية الثلاثة. وكما نعلم الكون قد نشأ من جراء الانفجار العظيم. لكن لو كان هذا الانفجار أكبر مما كان لتطايرت الغازات ولم تنشأ المجرات. ولو أن الانفجار العظيم لم يكن كبيرا ً كما هو لانهار على نفسه قبل نشوء الحياة. فالكون يتمدد بدرجة كافية لتنمو المجرات والنجوم والكواكب. لكن ليس ببطء شديد كي لا ينهار. هكذا الانفجار العظيم وما أدى إليه من تمدد للكون هما عنصران أساسيان لخلق الحياة وكأنهما اتخذا صفاتهما فقط من أجل أن تنمو الحياة. أما القوى الطبيعية (كالجاذبية والقوى المسؤولة عن تماسك الذرة) فهي مناسبة تماما ً لوجود الحياة ؛ فلو أنها أقوى بقليل أو أضعف بقليل ما كانت الحياة لتتمكن من الظهور(Paul Davies : Cosmic Jackpot. 2007. Houghton Mifflin Company. PP. 2-3. P. 47. P. 54.P. 138. PP. 142 – 143).
يقدِّم ديفيز تفسيره الخاص لتلك الحقائق فيدعو إلى اعتبار أن الحياة والعقل أساسيان في الكون ؛ فلا بد من النظر إليهما على أنهما يشتركان في خلق الكون كما تؤكد ميكانيكا الكمّ. على أساس ميكانيكا الكمّ يستنتج ديفيز أن العقل والحياة أساسيان في وجود الكون بدلا ً من أن يكونا نتيجتي الصدفة. من هنا يقول إنه ثمة مبدأ طبيعي شبيه بالقوانين الطبيعية يحتم وجود الحياة والعقل. ولذا العالم يتيح وجودهما ويخلقهما بالفعل. هكذا يفسِّـر ديفيز لماذا الكون صديق الحياة أي لماذا توجد الحياة في عالمنا. فللكون هدف طبيعي هو جزء من مبادئه الطبيعية. وهذا الهدف هو هدف بناء الحياة. أما بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ فمن غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم جسيما ً أم موجة. ولذا يتصرف الجسيم على أنه جسيم وعلى أنه موجة في الوقت ذاته. لكن تضيف ميكانيكا الكمّ قائلة إن الوعي يُحدِّد طبيعة الجسيم فإذا نظر إلى الجسيم وأبصره حينها يدركه إما على أنه جسيم وإما على أنه موجة ؛ فالوعي يُحدِّد ما إذا كان الجسيم جسيما ً أم موجة. من هنا بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ الوعي وما يتضمنه من عقل وحياة يلعب دورا ً أساسيا ً في صياغة الكون. لكن الكون يخلق الحياة والعقل. وقد رأينا أن الحياة والعقل يخلقان الكون أيضاً. من هنا الكون يخلق ويفسِّر ذاته. ويعترف ديفيز أنه أقرب إلى قبول هذا الموقف (PP. 223 – 249. PP. 266 – 267). لكن تعاني نظريتا بيهي وديفيز من مشكلة أساسية هي أنهما غير علميتين. فمهما كانت بنية الحياة تفسّرها نظرية بيهي على أنها كذلك بسبب ما أراده التصميم العاقل الهادف كما تفسّرها نظرية ديفيز على أنها كذلك بسبب أن هدف المبدأ الطبيعي الخالق للحياة هو أن يخلقها كذلك. بالنسبة إليهما، بنية الحياة هي هذه البنية دون تلك البنية بسبب إرادة التصميم العاقل أو بسبب هدف المبدأ الطبيعي. وبذلك مهما كانت بنية الحياة يتم تفسيرها من خلال إرادة التصميم أو هدف المبدأ الطبيعي ما يعني أنه يستحيل اختبار نظريتيهما لأنهما لا يحدِّدان ما يجب أن تكون عليه بنية الحياة. لكن بالنسبة إلى التقليد العلمي، النظرية العلمية هي التي من الممكن اختبارها. من هنا نظرية بيهي ونظرية ديفيز غير علميتين. ويبقى السؤال : ما هي النظرية العلمية القادرة على تفسير الحياة؟ على الأرجح السوبر حداثة أقرب إلى كونها نظرية علمية ناجحة في تفسير الحياة ونشوئها. فبالنسبة إلى السوبر حداثة، الحياة غير محدَّدة ولذا نشأت وأمست معقدة كما هي. وبذلك إذا وجدنا أن بنية الحياة محدَّدة حينها نكتشف أن السوبر حداثة نظرية كاذبة. هكذا من الممكن اختبار السوبر حداثة. ولذا هي نظرية أقرب إلى العلم إن لم تكن نظرية علمية.
اللامحدَّد ونشوء الحياة والعقل :
من الممكن تفسير نشوء الحياة والعقل من خلال الاعتماد على مبدأ اللامحدد المستعار من ميكانيكا الكمّ. بالنسبة إلى السوبر حداثة. اللامحدَّد يحكم العالَم. على هذا الأساس تعتبر السوبر حداثة أن الطبيعة بموادها وقوانينها تؤدي إلى نشوء الحياة لأن الطبيعة تـنتج الأشياء والحقائق والظواهر غير المُحدَّدة. وبما أن الحياة ظاهرة غير محدَّدة. إذن من غير المستغرب أن تنشأ الحياة. وهذا يصدق أيضا ً على العقل. فالعقل ظاهرة غير محدَّدة. وبما أن الطبيعة تـنتج اللامحدَّد. إذن من المتوقع أن تؤدي الطبيعة إلى نشوء العقل. هكذا من الممكن تفسير نشوء الحياة والعقل من خلال مبدأ اللامحدَّد بدلا ً من الاعتماد على كثرة الأكوان الممكنة أو الاعتماد على مُصمِّم خارج الطبيعة. أما فرضية أن الحياة والعقل غير محددين فهي فرضية مقبولة لأنه من خلالها نتمكن بحق من تفسير نجاح النظريات العديدة في تفسير الحياة والعقل رغم اختلافها وتعارضها. وبذلك تكتسب تلك الفرضية قدرتها التفسيرية فمقبوليتها. فبما أن الحياة والعقل غير محددين. إذن من الطبيعي أن توجد نظريات عديدة ناجحة في تفسير الحياة والعقل وتحليلهما رغم اختلافها والتعارض فيما بينها. فمثلا ً. من الممكن بنجاح تحليل العقل على أنه مجموعة وظائف كما من الممكن بنجاح تحليل العقل على أنه ميول للتصرف أو حالات فسيولوجية دماغية. ومن الممكن ذلك لأنه من غير المحدَّد ما هوالعقل. هذا ما يصدق أيضا ً على الحياة. فمن الممكن تحليل الحياة على أن الحي هو القابل للنمو والتحرك أو هوالقابل لأن يتغذى أو أن يجدِّد خلاياه أو هو الذي يتشكّل على ضوء تدفق المعلومات بين أجزائه كتدفق المعلومات من الحمض النووي أي ال DNA. كل هذه التفاسير للحياة ممكنة وناجحة إلى حد ما لأنه من غير المحدَّد ما هي الحياة. بالإضافة إلى ذلك. يعتبر مبدأ اللامحدَّد أن فقط الأشياء والظواهر غير المحدَّدة هي التي تنشأ وتستمر في البقاء. فبفضل لامحدديتها تكتسب قدرتها على التكيف مع المتغيرات المختلفة وبذلك تضمن بقاءها واستمرارها. لذا فقط الظواهر غير المحدَّدة تبقى. وبذلك تغدو الطبيعة مُنتِـجة فقط للحقائق والظواهر غير المحدَّدة. على هذا الأساس القوانين الطبيعية التي تحكم عالمنا لا بد أن تضمن لامحددية الكون. وبالفعل القوانين الطبيعية تضمن ذلك كقوانين ميكانيكا الكمّ التي تعتبر أنه من غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم جسيما ً أم موجة. هكذا مبدأ اللامحدَّد يفسِّر لماذا ميكانيكا الكمّ تحكم عالمنا. وبفضل قدرة هذا المبدأ على التفسير يكتسب مقبوليته. على هذا الأساس أيضا ً من الممكن تفسير تعقد الحياة البيولوجية من دون الاعتماد على مصمِّم خارق للطبيعة. فالحياة البيولوجية معقدة كثيرا ً لأن مع زيادة تعقيدها تضمن زيادة لامحدديتها. ومع زيادة لامحدديتها تضمن زيادة نجاحها في التكيف فالبقاء والاستمرار. فالمعقد أكثر غير محدَّد أكثر. ولذا الحياة معقدة. بالنسبة إلى مبدأ اللامحدد، فقط اللامحدد ينشأ ويستمر في البقاء. واللامحدد أكثر له فرصة أكبر في الاستمرار لازدياد قدرته على التكيف مع المتغيرات من جراء زيادة لامحدديته. من هنا تكتسب الحياة تعقيدها وتطورها. بكلام آخر، بما أن الطبيعة تـنتج الأشياء غير المحدَّدة أكثر. وبما أن تعقيد الحياة البيولوجية هو عبارة عن كثرة لامحددية الحياة. إذن من غير المستغرب أن تنتج الطبيعة حياة بيولوجية معقدة.
ميزياء العلم وسوبر مستقبليته :
بالنسبة إلى الميزياء. ليس للعلم ماهية بل للعلم ميزة. فالميزة متغيرة وقابلة للتطور بينما الماهية ثابتة ومطلقة. من هنا من المتوقع أن يتغير العلم ونظرياته. هكذا تفسِّر الميزياء لماذا العلم في تغير دائم ولماذا تستبدَل نظرياته بنظريات أخرى كما استبدِلت نظرية نيوتن بنظرية النسبية لأينشتاين. تعتبر الميزياء أن ميزة العلم كامنة في أنه عملية تصحيح مستمرة وبحث دائم عن الحقيقة ما يضمن استمرارية العلم ويُفسِّر تبدل النظريات العلمية وتغيرها واختلافها. الميزياء دراسة الميزة ؛ فكل شيء له ميزة تميزه عن الأشياء الأخرى وعلى أساسها يتشكّل. فلو أن الشيء لا ميزة له حينها يغدو غير مختلف عن الأشياء الأخرى وبذلك يفقد هويته فوجوده. من هنا من غير الممكن أن يوجد شيء من دون ميزة تميزه. ولذا من الضروري دراسة ميزات الأشياء والحقائق والظواهر. وفلسفة الميزياء على نقيض فلسفة الماهيات. فميزة الشيء قد تتغير بينما ماهية الشيء غير متغيرة لأن تعريف ماهية الشيء يتضمن أن الماهية هي التي لا يفترق عنها الشيء وإلا زال. فمثلا ً. لو زالت ماهية الإنسان عن الإنسان لزال الإنسان. لكن بالنسبة إلى الميزياء، لا توجد ماهيات بل فقط ميزات. مثل ذلك أنه لو أن للعقل ماهية ما تغير العقل. لكن بما أن للعقل ميزة بدلا ً من ماهية إذن من الممكن أن يتغير العقل ويتطور. فمع بداية وجود الإنسان كانت ميزة العقل قائمة في وظيفة الحفاظ على بقاء الجنس البشري من خلال الابتعاد عن الضرر والاقتراب من المفيد. لكن لاحقا ً تغيرت ميزة العقل وتطورت فأصبحت كامنة في إيصالنا إلى المعرفة وإن كانت لا تضر ولا تنفع في إبقائنا أحياء كالرياضيات المجردة. هكذا تتغير الميزة وقد تتطور. ومثل آخر هو التالي : لو أن للعلم ماهية لكان استحال أن يتغير العلم ومفهومه ونظرياته. وهذا خلاف الواقع ما يدعم رفض الميزياء للماهيات ويجعل دراسة الميزات هي الدراسة المقبولة حقا ً بدلا ً من دراسة الماهيات. وللميزياء قدرة تفسيرية. فكما رأينا سابقا ً تتمكن الميزياء من تفسير اختلاف النظريات العلمية وتعددها علما ً بأن ميزة العلم أنه عملية تصحيح مستمرة. أما السوبر حداثة فتعتبر أنه من غير المحدَّد ما هو العلم. ولذا العلم في تغير دائم ونظرياته مختلفة ومتعارضة. هكذا تفسِّر السوبر حداثة اختلاف النظريات العلمية واختلاف العلم من زمن إلى آخر ؛ فما كان علما ً قد لا يكون علما ً في الحاضر أو المستقبل. بينما تعتبر السوبر حداثة أن اللامحدد يحكم العالم. تقول السوبر مستقبلية إن التاريخ يبدأ من المستقبل ؛ فالحقائق والظواهر محدَّدة في المستقبل فقط. ولذا هي غير محدَّدة في الحاضر والماضي كما تؤكد السوبر حداثة بالضبط. هكذا ترتبط السوبر مستقبلية بالسوبر حداثة وتؤدي إليها. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية. لا بد من تحليل المفاهيم من خلال مفهوم المستقبل لأن الحقائق محدَّدة فقط في المستقبل. من هذا المنطلق تعتبر السوبر مستقبلية أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل. والقرار بكونه قرارا ً مرتبط بنا نحن البشر. وبذلك من الممكن معرفة الحقيقة. هكذا تعبِّـر السوبر مستقبلية عن إمكانية المعرفة وبذلك تكتسب فضيلتها الأولى. وبما أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل، والعلم يعبِّـر عن الواقع أو يعبِّـر عن شبيه الواقع. إذن يضمن تحليل السوبر مستقبلية للحقيقة أن تكون الحقيقة مطابقة للواقع أو لشبيه الواقع. وهذه فضيلة ثانية لتحليل السوبر مستقبلية. وبما أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل. والمستقبل لم يتحقق كليا ً في الحاضر والماضي. إذن لابد من البحث الدائم عن الحقيقة. هكذا نضمن استمرارية البحث العلمي بدلا ً من إيقافه. وبذلك تكتسب السوبر مستقبلية فضيلتها الثالثة. وعلى أساس اكتساب السوبر مستقبلية لفضائلها تغدو نظرية مقبولة.
الآن، بما أن بالنسبة إلى السوبر مستقبلية، الحقيقة قرار علمي في المستقبل، إذن الحقيقة غير محدَّدة في الحاضر والماضي. وبذلك من الطبيعي أن يتغير العلم ويتطور وأن تستبدَل النظريات العلمية بنظريات علمية أخرى وأن يستمر البحث العلمي إلى ما لا نهاية وأن يكون العلم عملية بحث مستمرة. هكذا تفسِّـر السوبر مستقبلية الحقائق السابقة، وعلى أساس قدرتها التفسيرية تكتسب مقبوليتها. لكن الميزياء والسوبر حداثة والسوبر مستقبلية مجرد أفكار ممكنة ليس إلا. وبهذا الموقف نضمن موضوعية البحث بدلا ً من أن نبقى سجناء يقينياتنا الكاذبة.