الاثنين، 1 مارس 2010

ميزياء العلم بين السوبر حداثة والسوبر مستقبلية

ميزياء العلم بين السوبر حداثة والسوبر مستقبلية


حســــن عجمـــي

نرصد في هذا المقال آخر النظريات العلمية ومن ثم نربطها بفلسفة الميزياء والسوبر حداثة والسوبر مستقبلية. فالفلسفة والعلم ينموان معا ً وهما زوجان لا طلاق بينهما.
بالنسبة إلى الميزياء، كل شيء له ميزة تميزه عن الأشياء الأخرى وعلى ضوئها يتشكّل ويكون. الميزياء فلسفة الميزة بينما السوبر حداثة هي الفلسفة التي تعترف بلا محددية الأشياء والحقائق والظواهر وتدرس الكون من خلال لامحدوديته. أما السوبر مستقبلية فتؤكد على موقف السوبر حداثة فتقول إن الأشياء والحقائق محدَّدة فقط في المستقبل.وبما أن المستقبل لم يتحقق كليا ً في الحاضر والماضي. إذن ما تزال الحقائق والأشياء غير محدَّدة في الحاضر والماضي. على أساس هذه التعاريف ترتبط الميزياء بالسوبر حداثة والسوبر مستقبلية وتتمكن معا ً من تفسير ظاهرة العلم. بالنسبة إلى الميزياء، الأشياء تملك ميزات بدلا ً من أن تملك ماهيات. والأشياء قد تخسر ميزاتها وتكتسب ميزات أخرى مختلفة على نقيض مما قد يحدث إذا كانت للأشياء ماهيات. من هنا تبقى الظواهر والحقائق والأشياء غير محدَّدة تماما ً كما تبشّر السوبر حداثة والسوبر مستقبلية. وعلى ضوء اجتماع الميزياء والسوبر حداثة والسوبر مستقبلية يظهر العلم على حقيقته ألا وهي أن العلم ظاهرة غير محدَّدة ولذا يتغير العلم وتتغير نظرياته وتختلف. هكذا يتم تفسير تغير العلم وتطوره.
تنوع النظريات العلمية واختلافها :
تتنوع النظريات العلمية وتختلف عن بعضها البعض ما يشير إلى أن العلم يصحح ذاته باستمرار. على هذا الأساس تقول الميزياء إن ميزة العلم كامنة في أنه عملية تصحيح مستمرة. لكن لماذا العلم كذلك؟ هنا تجيب السوبر حداثة قائلة إن العلم عملية تصحيح مستمرة لأنه من غير المحدَّد ما هو العلم. فبما أنه من غير المحـدَّد ما هو العلم. إذن من الطبيعي أن يكون العلم عملية تصحيح مستمرة. هكذا أيضا ً ترتبط الميزياء بالسوبر حداثة. ثمة أمثلة كثيرة على تنوع النظريات العلمية واختلافها وصراعها منها الأمثلة التالية: نظرية التضخم أكثر انتشارا ً وقبولا ً اليوم من غيرها لكنها تنافس النظرية الدورية في الكون. بالنسبة إلى نظرية التضخم كما بناها الفيزيائي آلن غوث. الكون قد نشأ من جراء الانفجار العظيم ومن ثم تضخم بشكل كبير في زمن قصير جدا ً ما جعل الكون منسجما ً ومسطحا ً. هكذا تفسـِّر نظرية التضخم لماذا الكون مسطحا ومنسجم في توزيع مواده بحيث لا يوجد فرق كبير في انتشار المادة والطاقة في الأمكنة المختلفة من الكون (Alan Guth: The Inflationary Universe.1997. Jonathan Cape).
أما الفيزيائيان بول ستينهردت ونيل طورق فينتقدان نظرية التضخم على أساس أنها لا تفسـِّر لماذا حدث الانفجار العظيم. وينطلقان نحو بناء نظرية أخرى هي النظرية الدورية التي تعتبر أن الكون غير متناه ٍ. بالنسبة إلى النظرية الدورية. تاريخ الوجود يتكـوّن من دورات متكررة من النشوء والتطور بحيث أن كل دورة تبـدأ بانفجار عظيم. لكن هـذا الانفجـار ليس بداية الزمان والمكان بل يسبقه انفجار عظيم آخر كما يلحقه انفجار ثان ٍ في دورة مستقبلية أخرى. هكـذا الكون لامتناه فلا توجد بداية للكون ولا نهاية. بل الكون يتشكـّل من دورات لامتناهية من انفجارات عظيمة تسـبِّب خلق عالمنا كما هو فيتكرر وجوده في كل دورة وتنشـأ الحقائق ذاتها من جديد إلى ما لا نهاية. وبما أن الكون أزلي. إذن لا توجد بداية لنشوء الكون. وبذلك تتجنب هذه النظرية حــلّ مشكلة كيف نشأ الكون ولماذا (Paul Steinhardt and Neil Turok : Endless Universe. 2007. Doubleday). بالإضافة إلى ذلك. يقـدِّم الفيزيائي جواو ماكيويجو نظرية علمية أخرى تختلف عن نظرية التضخم والنظرية الدورية وتعارضهما. بالنسبة إلى هذه النظرية. سرعة الضوء متغيرة وليست ثابتة. ومن خلال ذلك يتم تفسير نشوء المادة ولماذا الكون مسطح ومنسجم. تقول هذه النظرية : بما أن سرعة الضوء متغيرة. إذن الطاقة القائمة في الفراغ لن تبقى مستقرة. وبذلك تتحـوّل إلى مادة فيتكـوّن الكون. وتضيف التالي : بما أن سرعة الضوء كانت في بداية الوجود أسرع مما هي عليه الآن. وبما أنه مع ازدياد سرعة الضوء تزيد طاقة الفراغ ومع نقصان سرعة الضوء تنقص طاقة الفراغ. إذن ستنتقل الطاقة المُحـرَّرة من الأمكنة الأكثر كثافة إلى الأمكنة الأقل كثافة. وبذلك يصبح الكون منسجما ً ومسطحا ً بفضل تغير سرعة الضوء (Joao Magueijo : Faster Than The Speed of Light. 2003. Perseus Publishing).
هكذا تتنافس نظرية التضخم والنظرية الدورية ونظرية ماكيويجو كما تتنافس تماما ً النظرية النسبية لأينشتاين مع نظرية ميكانيكا الكم ّ. فبينما تقول النظرية النسبية إن الكون حتمي. تعتبر ميكانيكا الكم ّ أن الكون غير حتمي. هذه بعض الأمثلة على اختلاف النظريات العلمية وتعارضها. ولا مفر من تفسير لماذا تختلف النظريات العلمية وتتعارض رغم أنها كلها علمية وناجحة إلى حد ما. ويتم تفسير ذلك من خلال الميزياء مدعومة بالسوبر حداثة. فميزة العلم أنه عملية تصحيح مستمرة لأنه من غير المحدَّد ما هو العلم. لذا من الطبيعي أن تختلف النظريات العلمية وتتعارض.
تنوع المنهج العلمي واختلافه :
تقول الميزياء إن ميزة المنهج العلمي كامنة في اختلافه وتنوعه. وتفسـِّر السوبر حداثة ذلك على النحو التالي : بما أنه من غير المحـدَّد ما هو المنهج العلمي. إذن من الطبيعي أن تكون ميزة المنهج العلمي قائمة في تنوعه واختلافه. وهذا ما نجده بالضبط في ميدان العلم.يعتبر الفيزيائي لي سمولن أن الفيزياء قد تمتعت بنمو كبير في القرون الماضية نتيجة تزاوج النظريات والاختبار العلمي. فالأفكار خضعت للتجربة وبُرهن على صدقها، وفسـِّرت الاكتشافات من خلال هذه النظرية الفيزيائية أو تلك. لكن منذ الثمانينات من القرن المنصرم تغير المشهد الفيزيائي. في العقود الأخيرة لم يتمكن الفيزيائيون من تحقيق اكتشافات أساسية من خلال التجارب العلمية وتفسيرها على ضوء النظريات الفيزيائية. يضيف سمولن أن المشكلة كامنة في أن الفيزيائيين لم يتمكنوا من تطوير معرفتنا بقوانين الطبيعة. هكذا وقعت الفيزياء في مشكلتها (Lee Smolin : The Trouble With Physics. 2006. Houghton Mifflin Company. PP.xi – xii). يُـقدِّم سمولن تصورا ً لمنهج العلم مفاده أنه في العلم لابد من الاعتقاد بصدق نظرية ما فقط إذا تنبأت بتنبؤ جديد وظهر تنبؤها على أنه صادق من جراء الاختبار العلمي. أما إذا أدت النظرية إلى تنبؤات كاذبة. حينها فقط تـعتبَر نظرية كاذبة. بمعنى آخر. العلم هو القابل للتكذيب أو التصديق من خلال التجربة. أي لابد أن يكون للنظرية العلمية تنبؤات محـدَّدة من الممكن البرهنة على صدقها أو كذبها. والأزمة الحالية بالنسبة إلى سمولن هي أن النظريات التي طرحت في الثلاثين سـنة الأخيرة هي إما نظريات أظهرت كذبها وإما أنه يستحيل اختبار ما إذا كانت صادقة أم كاذبة. ومثل على ذلك نظرية الأوتار. بالنسبة إلى نظرية الأوتار. كل الكون يتكـوّن من أوتار لها ذبذبات مختلفة. ومن جراء اختلاف ذبذباتها تنشأ كل الطاقات والجسيمات. هذه الأوتار تستلزم وجود أبعاد عديدة إضافة إلى الأبعاد الأربعة المعروفة وهي الطول والعرض والعمق والزمن. وبفضل وجود الأوتار في أبعاد مختلفة تنمو القوى المختلفة في الطبيعة. يشير سمولن إلى أن نظرية الأوتار قد سيطرت على فكر العديد من العلماء رغم أننا لا نعرف ما إذا كانت صادقة. يقول إن هذه النظرية لا تتنبــأ بــأي تنبــؤ جديد. وبذلك يستحيل معرفة ما إذا كانت صادقة أم كاذبة من خلال التجربة العلمية. على هذا الأساس يستنتج سمولن أن نظرية الأوتار لا ترتقي إلى مستوى العلم الحقيقي بل أدت إلى تخبط الفيزياء. والأسوأ من ذلك أن نظرية الأوتار لا تشـكِّل نظرية حقا ً بل هي مجموعة كبيرة من الحسابات التقريبية. من هنا يقول إننا لا نعرف حقا ً ماذا تقول نظرية الأوتار. ورغم أنها غير مكتملة ولا يوجد برهان على صدقها. هذا لا يمنع العديد من الفيزيائيين من العمل على أساسها والإيمان بها واعتبارها الطريق الوحيد نحو تقدم الفيزياء. هكـذا ينقسم الفيزيائيون إلى معتقدين بنظرية الأوتار ورافضين لها (PP. xiii – xvii. P.47 PP. 169 – 171. PP. 178 – 179). يؤكد لي سمولن على أنه رغم قدرتها التفسيرية تعاني نظرية الأوتار من مشاكل عدة منها أيضا ً المشكلة التالية : ثمة حلول عديدة ومختلفة إن لم تكن لامتناهية لمعادلات نظرية الأوتار. وبذلك تنقسم نظرية الأوتار إلى نظريات مختلفة وعديدة. أما نظريات الأوتار المعروفة فلا تتفق مع حقائق العلم. ورغم ذلك مازال العلماء يقبلون بنظرية الأوتار لجماليتها في وصف العالم. هؤلاء العلماء يتجهون نحو اعتبار أن كل نظريات الأوتار الممكنة هي مجرد أوصاف ممكنة لعالمنا. وبذلك ثمة نظريات ممكنة ولا متناهية في نظرية الأوتار ذاتها. وإذا كانت كلها منسجمة ذاتيا ً ستؤدي إلى نتيجة أنه توجد أكوان ممكنة لامتناهية في العدد. لكن بالنسبة إلى سمولن. هذا يبرهن على فشل نظرية الأوتار؛ فالهدف الأساسي منها هو توحيد القوى والجسيمات الطبيعية وبدلا ً من ذلك وصلنا إلى نظريات لامتناهية ومختلفة (PP. 158 – 160. PP. 193 – 194.PP. 197 – 198. PP. 276 – 277).
هذا النقد لا يُشـكِّل تحطيما ً لنظرية الأوتار علما ً بأنه أولا ً مازال العديد من العلماء يدرسون الكون على أساسها. وثانيا ً عدم اتفاق نظريات الأوتار المعروفة مع حقائق العالم وتنوع نظريات الأوتار واختلافها ولا تناهيها في العدد قد يشير كل هذا إلى أن العلم يدرس الأكوان الممكنة المختلفة واللامتناهية كما تقول السوبر حداثة بالضبط. ويستمر الجدل وهذه ميزة العلم الأساسية ؛ فالعلم عملية تصحيح مستمرة. ولذا هو علم وليس خرافة. أما سمولن فيعتمد على نظرية معينة في تحليل المنهج العلمي ألا وهي أن المنهج العلمي يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار فالتكذيب أو التصديق. وعلى هذا الأساس يرفض نظرية الأوتار. لكن كما أكد سمولن نفسه يوجد العديد من العلماء الذين يقبلون نظرية الأوتار ويعملون على أساسها. وبذلك لابد أنهم يتبنون نظرية أخرى في تحليل المنهج العلمي تختلف عن نظرية سمولن. أي لابد أنهم مقتنعون بأن المنهج العلمي لا يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار والتأكيد على كذبها أو صدقها. ولذا هؤلاء العلماء مستمرون في قبول نظرية الأوتار رغم أنها لا ترتبط بالاختبار. هكذا نجد أن العلماء منقسمون حول ما هو المنهج العلمي. على هذا الأساس نستنتج أنه من غير المحدَّد ما هو المنهج العلمي تماما ً كما تؤكد السوبر حداثة ؛ فمن غير المحدَّد ما إذا كان المنهج العلمي يستلزم بالضرورة الاختبار أم لا.بما أنه من غير المحدَّد ما هو المنهج العلمي. إذن من الطبيعي وجود نظريات علمية مختلفة باختلاف المنهج المُعتمَـد. ولذا أيضا ً توجد نظريات كنظرية الأوتار رغم عدم ارتباطها بالاختبار كما توجد نظريات أخرى مرتبطة بالاختبار. هكذا نتمكن من تفسير اختلاف المنهج العلمي واختلاف النظريات العلمية ما يدعم موقف الميزياء أيضا ً لأن الميزياء تقول إن ميزة المنهج العلمي كامنة في اختلافه وتنوعه. بالنسبة إلى الميزياء، لكل شيء ميزة تميزه. وبذلك لا يوجد شيء مطابق لشيء آخر وإن تشابها في التفاصيل. من هنا لا يوجد علم شبيه بعلم. ولذا ميزة العلم قائمة في اختلاف منهجه ونظرياته ولذا العلم عملية تصحيح مستمرة. هكذا تتمكن الميزياء من تفسير تنوع المنهج العلمي واختلاف النظريات العلمية فتكتسب مقبوليتها.
الأكوان الممكنة وتفسير عالمنا :
يتبنى الفيزيائي ميشيو كاكو نظرية مفادها أنه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة. ويرينا كيف أن النظريات العلمية المعاصرة تؤيد موقفه . فمثلا ً. نظرية الأوتار تؤدي إلى نتيجة أنه ثمة أكوان ممكنة مختلفة. بالنسبة إلى نظرية الأوتار. كل شيء يتكوّن من أوتار وأنغامها ؛ فمع اختلاف أنغام الأوتار تختلف الجسيمات. فالذرات تتكوّن من جسيمات. والجسيمات كالإلكترون والفوتون تتكوّن من أوتار. باختصار. العالم سمفونية الأوتار. لكن نظرية الأوتار تستلزم وجود أبعاد عدة بالإضافة إلى الأبعاد المكانية الثلاثة والبُعد الزماني. هذه الأبعاد تلتف حول نفسها بحيث لا نراها في عالمنا. وبما أن الكون يحتوي على هذه الأبعاد المختلفة بهندساتها المتنوعة. وعلما ً بأن قوانين الطبيعة تعتمد على هندسة الطبيعة وبذلك تختلف القوانين الطبيعية باختلاف هندسات الطبيعة. إذن من المتوقع أن تشكِّل هذه الأبعاد العديدة أكوانا ً مختلفة في قوانينها وحقائقها. هكذا تؤدي نظرية الأوتار إلى نتيجة أنه توجد أكوان عديدة ومختلفة (Michio Kaku : Parallel Worlds. 2005. Doubleday. PP.xvI – xvII. P. 18. PP.. (199 – 200 كما يشير كاكو إلى حقيقة أنه قد تم اكتشاف بلايين من الحلول لمعادلات نظرية الأوتار. وكل حلّ من هذه الحلول يصف كونا ً متناسقا ً رياضيا ً ومختلفا ً عن الأكوان الأخرى التي تصفها الحلول الأخرى لنظرية الأوتار. هكذا تدل نظرية الأوتار على وجود أكوان عديدة PP. 207 – 208. P. 240».بالإضافة إلى ذلك. يُقدِّم ميشيو كاكو حجته الخاصة على وجود الأكوان الممكنة على النحو التالي : بمجرد أن نسمح بإمكانية نشوء عالم واحد. نفتح الباب أمام احتمال نشوء عوالم ممكنة ولامتناهية. فبالنسبة إلى ميكانيكا الكم ّ. الإلكترون لا يوجد في مكان مُحدَّد بل يوجد في كل الأمكنة الممكنة حول نواة الذرة. لكن الكون قد كان أصغر من الإلكترون. وبذلك إذا طبقنا ميكانيكا الكمّ على الكون ككل. تصبح النتيجة أن الكون يوجد في كل الحالات العديدة والمختلفة والممكنة. وهذه الحالات الممكنة والمختلفة ليست سوى الأكوان الممكنة. وبذلك يستنتج كاكو أنه لا مفر من الاعتراف بامكانية وجود الأكوان الممكنة (PP. 92 – 93. P. 179 ). ويوضِّـح كاكو أن هذه الأكوان الممكنة ليست المجرات المختلفة في عالمنا بل المجرات جزء من عالمنا الواقعي بالذات. وعلى الأرجح الأكوان الممكنة منفصلة عن عالمنا وعن بعضها البعض وقد تشبه عالمنا وقد تختلف عنه. فبعض من الأكوان الممكنة تختلف في قوانينها الطبيعية وحقائقها وظواهرها عن الأكوان الممكنة الأخرى وعن عالمنا الذي نحيا فيه. والعديد من الفيزيائيين اليوم يعتقدون بقوة بأن هذه الأكوان موجودة بالفعل (P. 96. P.101. P. 107. P.184 ). كل هذا يدعم السوبر حداثة التي تدعو إلى دراسة الأكوان الممكنة وتعتبر أن اللامحدَّد يحكم العالَـم والوجود لاختلاف الأكوان الممكنة عن بعضها البعض.أما الفيزيائي مارتن ريز فيفسِّر لماذا يوجد عالَـم كعالمنا من خلال وجود الأكوان الممكنة. يقول ريز : بما أنه توجد أكوان ممكنة ومختلفة وعديدة إن لم تكن لا متناهية، إذن ليس من المستغرب أن يوجد عالم كعالمنا يملك قوانينه وحقائقه بالذات. ومثال ذلك إذا دخلنا إلى متجرة لبيع الثياب حيث توجد ثياب بمقاسات مختلفة وعديدة. لن يكون حينئـذٍ من المستغرب أن نجد ثوبا ً بمقاسنا. هكذا ليس من الغريب أن يوجد عالمنا بالذات (Martin Rees : Our Cosmic Habitat. 2001. Princeton University Press).
من المنطلق نفسه يفسِّر الفيزيائي ليونارد سسكيند لماذا عالمنا مناسب جدا ً لوجود الحياة. يشرح لنا سسكيند كيف أن عالمنا هو الأفضل لنشوء الحياة واستمرارها. ويُـقدِّم أمثلة عديدة على ذلك منها أن أي اختلاف في قوانين الفيزياء يؤدي إلى نهاية الحياة أو عدم نشوئها أصلا ً. وأي تغير في خصائص الجسيمات كالإلكترونات أو الفوتونات سيؤدي إلى انهيار الكيمياء التي نعرفها ما يدفع إلى القضاء على الحياة كليا ً. وليست فقط القوانين الطبيعية والجسيمات وصفاتها تسمح بنشوء الحياة بل صفات الكون ككل كحجمه وسرعة نموه تلزم وجود الحياة وكأنها صُنِـعت من أجل أن توجد الحياة وتبقى. فمثلا ً. لو كانت الجاذبية أقوى بقليل عما هي عليه لتطور الكون ونما بسرعة هائلة ما لم يمنح الكون الوقت الكافي لنشوء الحياة. أما إذا كانت الجاذبية أضعف مما هي عليه لن تتكوّن حينئذٍ المجرات ونجومها وكواكبها وبذلك ما كانت الحياة لتوجد. كما أن تغيرات طفيفة في قوانين الكهرباء والفيزياء النووية تمنع تشكل الكربون الضروري لتكوين الحياة. وهذا يصدق أيضا ً على المواد الأخرى فكأن قوانين الطبيعة والمواد الطبيعية تآمرت على خلق الحياة (Leonard Susskind : The Cosmic Landscape. 2006. Back Bay Books. P.5.PP. 9-10). يعتبر سسكيند أن الكون مخلوق بأفضل تكوين. فالكون يكبر من خلال توسعه المثالي. لو كان تمدد الكون بسرعة أكبر لتناثرت مواده قبل أن تتجمع في مجرات ونجوم وكواكب. كما أن الكون في بدايته لم يكن كثير النتوءات ولم يكن أيضا ً أملس كثيرا ً. لو بدأ الكون أكثر نتوءا ً لانهار إلى ثقوب سوداء بدلا ً من أن يشكّل المجرات. ولو أن الكون بدأ أملس أكثر لم تنشأ المجرات والنجوم والكواكب لكونها نتيجة وجود النتوءات في بدايات الكون. أما الجاذبية فقوية كي تبقينا على سطح الأرض. لكنها إذا كانت أقوى لاحترقت المواد في قلب النجوم بسرعة وضمن ملايين السنين بدلا ً من بلايين السنين الضرورية لنشوء الحياة العاقلة. والقوانين الطبيعية أيضا ً تسمح بوجود الذرات ونواتها التي تتجمع في النهاية في جزيئات الحياة. كما أن قوانين الطبيعة هي الأفضل بحيث تسمح بنشوء الكربون والأكسجين والمواد الضرورية الأخرى للحياة وتجعلها تطبَـخ في النجوم الأولى وتنتشر في الكون من خلال انفجار النجوم. لذا يبدو أن قوانين الطبيعة قد خِيطت من أجل وجودنا (PP. 129 – 130). على أساس الملاحظات العلمية السابقة يسود السؤال التالي : لماذا تتآمر قوانين ومواد الطبيعة على خلق الحياة؟ وإجابة سسكيند معتمدة على فكرة وجود أكوان مختلفة في قوانينها وموادها وثوابتها الطبيعية. يقول : بما أنه توجد أكوان مختلفة وعديدة إن لم تكن لامتناهية. إذن من الطبيعي وجود عالم كعالمنا حيث توجد الحياة وتوجد كل القوانين والمواد الضرورية لنشوئها. هكذا يفسِّر سسكيند لماذا يوجد عالم كعالمنا بمواده وقوانينه بالذات التي تسمح بوجود الحياة. ويضيف أن وجودنا نتيجة حتمية لوجود الأكوان الممكنة العديدة والمختلفة (PP. 20-21. PP. 90 – 91. PP. 97 – 98. P. 176. P. 294 PP. 315 – 317. PP. 346 – 348).
لكن تفسير لماذا يوجد عالم كعالمنا من خلال نظرية وجود الأكوان الممكنة هو تفسير فاشل لسبب أساسي هو التالي : تسليمنا العلمي بوجود الأكوان الممكنة لا يتضمن بالضرورة وجود عالم كعالمنا يسمح بوجود الحياة والعقل. لنسلّم بأنه توجد أكوان لامتناهية ومختلفة. رغم ذلك من الممكن رياضيا ً سحب الأكوان التي تحتوي على العقل والحياة من سلسلة الأكوان الممكنة اللامتناهية وتبقى سلسلة الأكوان هذه مكوَّنة من أكوان لامتناهية. هكذا يؤكد علم اللامتناهيات في الرياضيات. على هذا الأساس السلسلة اللامتناهية من الأكوان الممكنة لا تتضمن بالضرورة وجود أكوان حاوية على الحياة والعقل. هكذا وجود الأكوان الممكنة لا يساعدنا في تفسير لماذا يوجد عالم كعالمنا حيث توجد الحياة ويوجد العقل.
التصميم العاقل والطبيعة الهادفة :
أما عالِم البيولوجيا مايكل بيهي فيتخذ موقفا ً معاديا ً للنظرية الداروينية فيقول إنها لا تقدِّم تفسيرا ً دقيقا ً للحياة. فالتحولات البيولوجية العشوائية والانتقاء الطبيعي والوراثة لا تكفي لنشوء الكائنات الحية ونجاحها في البقاء والاستمرار. بل لا بد من وجود طريق ارتقائي مُعبَّـد من نقطة بيولوجية إلى أخرى. هذا لأن الارتقاء الأعمى الذي تبشِّـر به الداروينية لا يؤدي إلى وجود الحياة ونجاحها في البقاء بسبب أن التطور الدارويني لا يعترف بوجود أهداف للطبيعة كهدف خلق الحياة. وبرهانه الأساسي على موقفه هو التالي : بما أن البنيات الحية شديدة التعقد وغير مختزلة إلى وحدات بيولوجية منعزلة. إذن الانتقاء الطبيعي والتحوّل العشوائي لا يفسِّران نشوء تلك البنيات. على هذا الأساس يستنتج أنه يوجد مصمِّم عاقل هو المسؤول عن خلق الحياة. يقول : الارتقاء الدارويني أعمى كونه خاليا ً من هدف بناء الحياة ونجاحها. فالآلية العمياء تفتقر إلى عملية بناء مقصودة لصفة معينة واستمرارية تحسينها. من هنا يستنتج بيهي أنه من غير المتوقع وجود تطور متجانس لصفة معينة من منطلق النظرية الداروينية. وهذا ما يخالف الواقع البيولوجي. فبما أن البنيات البيولوجية معقدة بشكل هائل. إذن من غير الممكن أن تبنَـى من خلال عملية تدريجية وبطيئة كالتي تدعو إليها الداروينية ولذا الآليات الداروينية عمياء (Michael Behe : The Edge of Evolution.2007. Free Press. PP. 5 – 8. PP. 41 -42. P. 102. PP.112 -113. PP. 121 – 122).
يقدِّم بيهي أمثلة تدعم موقفه منها المثل التالي : الخلية الحية تشكّل كُلا ً متماسكا ً وغير عشوائي كأنها مصنع تم تأسيسه بعناية. على هذا الأساس يستنتج أن الأنظمة البيولوجية العملية والمتجانسة والأنيقة التي تعتمد عليها الحياة هي نتيجة تصميم عاقل. والتصميم هو الترتيب الهادف للأجزاء. فالخلايا مثلا ً نتيجة تصميم هدفه خلق الحياة. بالنسبة إلى بيهي. الكون كله بما فيه الكون البيولوجي محكوم بنظام عاقل وواع . فبينما مبادئ النظرية الداروينية توقعت وجود العشوائية والبساطة في البنية الحية، اكتشفت العلوم البيولوجية المعاصرة أن البنيات الحية منظمة وأنيقة ومعقدة إلى حد كبير. ولا يكتفي بيهي بنتائجه تلك بل يمضي نحو اعتبار أن الكون كله نتيجة تصميم هدفه خلق الحياة. فيقول إن الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا تشير إلى ذلك. فمثلا ً. لو تغيرت القوانين الطبيعية ولو قليلا ً ما كانت الحياة لتنشأ (PP. 146 – 147. PP. 166 – 168. P. 190. P. 202. PP. 204 – 208).
أما الفيزيائي بول ديفيز فيعتبر أن الكون مكوَّن بدقة قصوى بحيث أنه إذا كانت أية صفة للكون (كصفات ذراته أو توزيع مجراته) تختلف ولو قليلا ً عما هي عليه ما كانت الحياة لتوجد. فمثلا ً. الكربون والماء السائل ضروريان لوجود الحياة. والقوانين الطبيعية كأنها مكوَّنة خصيصا ً لنشوء الحياة. عالمنا في كل معالمه صديق مخلص للحياة. فمثلا ً. يستحيل وجود الحياة في عالم بأبعاد مكانية غير أبعاده المكانية الثلاثة. وكما نعلم الكون قد نشأ من جراء الانفجار العظيم. لكن لو كان هذا الانفجار أكبر مما كان لتطايرت الغازات ولم تنشأ المجرات. ولو أن الانفجار العظيم لم يكن كبيرا ً كما هو لانهار على نفسه قبل نشوء الحياة. فالكون يتمدد بدرجة كافية لتنمو المجرات والنجوم والكواكب. لكن ليس ببطء شديد كي لا ينهار. هكذا الانفجار العظيم وما أدى إليه من تمدد للكون هما عنصران أساسيان لخلق الحياة وكأنهما اتخذا صفاتهما فقط من أجل أن تنمو الحياة. أما القوى الطبيعية (كالجاذبية والقوى المسؤولة عن تماسك الذرة) فهي مناسبة تماما ً لوجود الحياة ؛ فلو أنها أقوى بقليل أو أضعف بقليل ما كانت الحياة لتتمكن من الظهور(Paul Davies : Cosmic Jackpot. 2007. Houghton Mifflin Company. PP. 2-3. P. 47. P. 54.P. 138. PP. 142 – 143).
يقدِّم ديفيز تفسيره الخاص لتلك الحقائق فيدعو إلى اعتبار أن الحياة والعقل أساسيان في الكون ؛ فلا بد من النظر إليهما على أنهما يشتركان في خلق الكون كما تؤكد ميكانيكا الكمّ. على أساس ميكانيكا الكمّ يستنتج ديفيز أن العقل والحياة أساسيان في وجود الكون بدلا ً من أن يكونا نتيجتي الصدفة. من هنا يقول إنه ثمة مبدأ طبيعي شبيه بالقوانين الطبيعية يحتم وجود الحياة والعقل. ولذا العالم يتيح وجودهما ويخلقهما بالفعل. هكذا يفسِّـر ديفيز لماذا الكون صديق الحياة أي لماذا توجد الحياة في عالمنا. فللكون هدف طبيعي هو جزء من مبادئه الطبيعية. وهذا الهدف هو هدف بناء الحياة. أما بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ فمن غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم جسيما ً أم موجة. ولذا يتصرف الجسيم على أنه جسيم وعلى أنه موجة في الوقت ذاته. لكن تضيف ميكانيكا الكمّ قائلة إن الوعي يُحدِّد طبيعة الجسيم فإذا نظر إلى الجسيم وأبصره حينها يدركه إما على أنه جسيم وإما على أنه موجة ؛ فالوعي يُحدِّد ما إذا كان الجسيم جسيما ً أم موجة. من هنا بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ الوعي وما يتضمنه من عقل وحياة يلعب دورا ً أساسيا ً في صياغة الكون. لكن الكون يخلق الحياة والعقل. وقد رأينا أن الحياة والعقل يخلقان الكون أيضاً. من هنا الكون يخلق ويفسِّر ذاته. ويعترف ديفيز أنه أقرب إلى قبول هذا الموقف (PP. 223 – 249. PP. 266 – 267). لكن تعاني نظريتا بيهي وديفيز من مشكلة أساسية هي أنهما غير علميتين. فمهما كانت بنية الحياة تفسّرها نظرية بيهي على أنها كذلك بسبب ما أراده التصميم العاقل الهادف كما تفسّرها نظرية ديفيز على أنها كذلك بسبب أن هدف المبدأ الطبيعي الخالق للحياة هو أن يخلقها كذلك. بالنسبة إليهما، بنية الحياة هي هذه البنية دون تلك البنية بسبب إرادة التصميم العاقل أو بسبب هدف المبدأ الطبيعي. وبذلك مهما كانت بنية الحياة يتم تفسيرها من خلال إرادة التصميم أو هدف المبدأ الطبيعي ما يعني أنه يستحيل اختبار نظريتيهما لأنهما لا يحدِّدان ما يجب أن تكون عليه بنية الحياة. لكن بالنسبة إلى التقليد العلمي، النظرية العلمية هي التي من الممكن اختبارها. من هنا نظرية بيهي ونظرية ديفيز غير علميتين. ويبقى السؤال : ما هي النظرية العلمية القادرة على تفسير الحياة؟ على الأرجح السوبر حداثة أقرب إلى كونها نظرية علمية ناجحة في تفسير الحياة ونشوئها. فبالنسبة إلى السوبر حداثة، الحياة غير محدَّدة ولذا نشأت وأمست معقدة كما هي. وبذلك إذا وجدنا أن بنية الحياة محدَّدة حينها نكتشف أن السوبر حداثة نظرية كاذبة. هكذا من الممكن اختبار السوبر حداثة. ولذا هي نظرية أقرب إلى العلم إن لم تكن نظرية علمية.
اللامحدَّد ونشوء الحياة والعقل :
من الممكن تفسير نشوء الحياة والعقل من خلال الاعتماد على مبدأ اللامحدد المستعار من ميكانيكا الكمّ. بالنسبة إلى السوبر حداثة. اللامحدَّد يحكم العالَم. على هذا الأساس تعتبر السوبر حداثة أن الطبيعة بموادها وقوانينها تؤدي إلى نشوء الحياة لأن الطبيعة تـنتج الأشياء والحقائق والظواهر غير المُحدَّدة. وبما أن الحياة ظاهرة غير محدَّدة. إذن من غير المستغرب أن تنشأ الحياة. وهذا يصدق أيضا ً على العقل. فالعقل ظاهرة غير محدَّدة. وبما أن الطبيعة تـنتج اللامحدَّد. إذن من المتوقع أن تؤدي الطبيعة إلى نشوء العقل. هكذا من الممكن تفسير نشوء الحياة والعقل من خلال مبدأ اللامحدَّد بدلا ً من الاعتماد على كثرة الأكوان الممكنة أو الاعتماد على مُصمِّم خارج الطبيعة. أما فرضية أن الحياة والعقل غير محددين فهي فرضية مقبولة لأنه من خلالها نتمكن بحق من تفسير نجاح النظريات العديدة في تفسير الحياة والعقل رغم اختلافها وتعارضها. وبذلك تكتسب تلك الفرضية قدرتها التفسيرية فمقبوليتها. فبما أن الحياة والعقل غير محددين. إذن من الطبيعي أن توجد نظريات عديدة ناجحة في تفسير الحياة والعقل وتحليلهما رغم اختلافها والتعارض فيما بينها. فمثلا ً. من الممكن بنجاح تحليل العقل على أنه مجموعة وظائف كما من الممكن بنجاح تحليل العقل على أنه ميول للتصرف أو حالات فسيولوجية دماغية. ومن الممكن ذلك لأنه من غير المحدَّد ما هوالعقل. هذا ما يصدق أيضا ً على الحياة. فمن الممكن تحليل الحياة على أن الحي هو القابل للنمو والتحرك أو هوالقابل لأن يتغذى أو أن يجدِّد خلاياه أو هو الذي يتشكّل على ضوء تدفق المعلومات بين أجزائه كتدفق المعلومات من الحمض النووي أي ال DNA. كل هذه التفاسير للحياة ممكنة وناجحة إلى حد ما لأنه من غير المحدَّد ما هي الحياة. بالإضافة إلى ذلك. يعتبر مبدأ اللامحدَّد أن فقط الأشياء والظواهر غير المحدَّدة هي التي تنشأ وتستمر في البقاء. فبفضل لامحدديتها تكتسب قدرتها على التكيف مع المتغيرات المختلفة وبذلك تضمن بقاءها واستمرارها. لذا فقط الظواهر غير المحدَّدة تبقى. وبذلك تغدو الطبيعة مُنتِـجة فقط للحقائق والظواهر غير المحدَّدة. على هذا الأساس القوانين الطبيعية التي تحكم عالمنا لا بد أن تضمن لامحددية الكون. وبالفعل القوانين الطبيعية تضمن ذلك كقوانين ميكانيكا الكمّ التي تعتبر أنه من غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم جسيما ً أم موجة. هكذا مبدأ اللامحدَّد يفسِّر لماذا ميكانيكا الكمّ تحكم عالمنا. وبفضل قدرة هذا المبدأ على التفسير يكتسب مقبوليته. على هذا الأساس أيضا ً من الممكن تفسير تعقد الحياة البيولوجية من دون الاعتماد على مصمِّم خارق للطبيعة. فالحياة البيولوجية معقدة كثيرا ً لأن مع زيادة تعقيدها تضمن زيادة لامحدديتها. ومع زيادة لامحدديتها تضمن زيادة نجاحها في التكيف فالبقاء والاستمرار. فالمعقد أكثر غير محدَّد أكثر. ولذا الحياة معقدة. بالنسبة إلى مبدأ اللامحدد، فقط اللامحدد ينشأ ويستمر في البقاء. واللامحدد أكثر له فرصة أكبر في الاستمرار لازدياد قدرته على التكيف مع المتغيرات من جراء زيادة لامحدديته. من هنا تكتسب الحياة تعقيدها وتطورها. بكلام آخر، بما أن الطبيعة تـنتج الأشياء غير المحدَّدة أكثر. وبما أن تعقيد الحياة البيولوجية هو عبارة عن كثرة لامحددية الحياة. إذن من غير المستغرب أن تنتج الطبيعة حياة بيولوجية معقدة.
ميزياء العلم وسوبر مستقبليته :
بالنسبة إلى الميزياء. ليس للعلم ماهية بل للعلم ميزة. فالميزة متغيرة وقابلة للتطور بينما الماهية ثابتة ومطلقة. من هنا من المتوقع أن يتغير العلم ونظرياته. هكذا تفسِّر الميزياء لماذا العلم في تغير دائم ولماذا تستبدَل نظرياته بنظريات أخرى كما استبدِلت نظرية نيوتن بنظرية النسبية لأينشتاين. تعتبر الميزياء أن ميزة العلم كامنة في أنه عملية تصحيح مستمرة وبحث دائم عن الحقيقة ما يضمن استمرارية العلم ويُفسِّر تبدل النظريات العلمية وتغيرها واختلافها. الميزياء دراسة الميزة ؛ فكل شيء له ميزة تميزه عن الأشياء الأخرى وعلى أساسها يتشكّل. فلو أن الشيء لا ميزة له حينها يغدو غير مختلف عن الأشياء الأخرى وبذلك يفقد هويته فوجوده. من هنا من غير الممكن أن يوجد شيء من دون ميزة تميزه. ولذا من الضروري دراسة ميزات الأشياء والحقائق والظواهر. وفلسفة الميزياء على نقيض فلسفة الماهيات. فميزة الشيء قد تتغير بينما ماهية الشيء غير متغيرة لأن تعريف ماهية الشيء يتضمن أن الماهية هي التي لا يفترق عنها الشيء وإلا زال. فمثلا ً. لو زالت ماهية الإنسان عن الإنسان لزال الإنسان. لكن بالنسبة إلى الميزياء، لا توجد ماهيات بل فقط ميزات. مثل ذلك أنه لو أن للعقل ماهية ما تغير العقل. لكن بما أن للعقل ميزة بدلا ً من ماهية إذن من الممكن أن يتغير العقل ويتطور. فمع بداية وجود الإنسان كانت ميزة العقل قائمة في وظيفة الحفاظ على بقاء الجنس البشري من خلال الابتعاد عن الضرر والاقتراب من المفيد. لكن لاحقا ً تغيرت ميزة العقل وتطورت فأصبحت كامنة في إيصالنا إلى المعرفة وإن كانت لا تضر ولا تنفع في إبقائنا أحياء كالرياضيات المجردة. هكذا تتغير الميزة وقد تتطور. ومثل آخر هو التالي : لو أن للعلم ماهية لكان استحال أن يتغير العلم ومفهومه ونظرياته. وهذا خلاف الواقع ما يدعم رفض الميزياء للماهيات ويجعل دراسة الميزات هي الدراسة المقبولة حقا ً بدلا ً من دراسة الماهيات. وللميزياء قدرة تفسيرية. فكما رأينا سابقا ً تتمكن الميزياء من تفسير اختلاف النظريات العلمية وتعددها علما ً بأن ميزة العلم أنه عملية تصحيح مستمرة. أما السوبر حداثة فتعتبر أنه من غير المحدَّد ما هو العلم. ولذا العلم في تغير دائم ونظرياته مختلفة ومتعارضة. هكذا تفسِّر السوبر حداثة اختلاف النظريات العلمية واختلاف العلم من زمن إلى آخر ؛ فما كان علما ً قد لا يكون علما ً في الحاضر أو المستقبل. بينما تعتبر السوبر حداثة أن اللامحدد يحكم العالم. تقول السوبر مستقبلية إن التاريخ يبدأ من المستقبل ؛ فالحقائق والظواهر محدَّدة في المستقبل فقط. ولذا هي غير محدَّدة في الحاضر والماضي كما تؤكد السوبر حداثة بالضبط. هكذا ترتبط السوبر مستقبلية بالسوبر حداثة وتؤدي إليها. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية. لا بد من تحليل المفاهيم من خلال مفهوم المستقبل لأن الحقائق محدَّدة فقط في المستقبل. من هذا المنطلق تعتبر السوبر مستقبلية أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل. والقرار بكونه قرارا ً مرتبط بنا نحن البشر. وبذلك من الممكن معرفة الحقيقة. هكذا تعبِّـر السوبر مستقبلية عن إمكانية المعرفة وبذلك تكتسب فضيلتها الأولى. وبما أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل، والعلم يعبِّـر عن الواقع أو يعبِّـر عن شبيه الواقع. إذن يضمن تحليل السوبر مستقبلية للحقيقة أن تكون الحقيقة مطابقة للواقع أو لشبيه الواقع. وهذه فضيلة ثانية لتحليل السوبر مستقبلية. وبما أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل. والمستقبل لم يتحقق كليا ً في الحاضر والماضي. إذن لابد من البحث الدائم عن الحقيقة. هكذا نضمن استمرارية البحث العلمي بدلا ً من إيقافه. وبذلك تكتسب السوبر مستقبلية فضيلتها الثالثة. وعلى أساس اكتساب السوبر مستقبلية لفضائلها تغدو نظرية مقبولة.
الآن، بما أن بالنسبة إلى السوبر مستقبلية، الحقيقة قرار علمي في المستقبل، إذن الحقيقة غير محدَّدة في الحاضر والماضي. وبذلك من الطبيعي أن يتغير العلم ويتطور وأن تستبدَل النظريات العلمية بنظريات علمية أخرى وأن يستمر البحث العلمي إلى ما لا نهاية وأن يكون العلم عملية بحث مستمرة. هكذا تفسِّـر السوبر مستقبلية الحقائق السابقة، وعلى أساس قدرتها التفسيرية تكتسب مقبوليتها. لكن الميزياء والسوبر حداثة والسوبر مستقبلية مجرد أفكار ممكنة ليس إلا. وبهذا الموقف نضمن موضوعية البحث بدلا ً من أن نبقى سجناء يقينياتنا الكاذبة.